التقرير السياسي

التقرير السياسي للحزب الدستوري السوري (حدْس)

شهد شهر أيلول/ سبتمبر عدة أحداث حملت متغيرات سياسية واجتماعية كثيرة على الساحة السورية، ولعلّ أبرز هذه الأحداث هو زيارة الوفد الروسي إلى دمشق. زيارة حظيت باهتمام إعلامي سوري وعربي كبيرين، فيما لم تنل القدر نفسه من الاهتمام في الإعلام الروسي.
والحدث الأخطر كان تجدّد الاقتتال بين الفصائل الموالية لروسيا والإمارات في درعا، وبين الفصائل المحلية المدعومة إيرانياً، في خطوة تعكس حدّة الصراع الروسي-الإيراني، وتتجلّى خطورة الحدث في أنّه قد يؤسّس لاقتتال طائفي سنّي-درزي إذا لم يتم تدارك مفاعيله.

زيارة لافروف إلى سورية

قام وفدٌ روسيّ رفيع المستوى برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء ومسؤول الملف الاقتصادي ورئيس اللجنة الروسية – السورية المشتركة “يوري بوريسوف” بزيارة دمشق، وذلك في تاريخ 07 أيلول/سبتمبر. وقد ضمّ الوفد وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف”، كما ضمّ الوفد أيضاً السيد “ميخائيل بوغدانوف” الذي يشغل مهمة الممثل الخاص للرئيس الروسي لشؤون إفريقيا والشرق الأوسط بالإضافة إلى منصبه كنائب لوزير الخارجية، عدا عن عددٍ كبيرٍ من المسؤولين السياسيين والعسكريين والاقتصاديين.

اكتست الزيارة أهمية كبيرة كونها كانت الزيارة الأولى لـ “سيرجي لافروف”، عميد الدبلوماسية الروسية، إلى سورية منذ فبراير/ شباط 2012، وهو كان قد صرّح يومها قبيل مغادرته مطار دمشق الدولي بأنّه لن يعود إلى سورية إلاّ بعد القضاء على “الإرهاب. زيارة أتت في وقت تخشى فيه روسيا من انسداد للعملية السياسية، سيؤثر بالتأكيد على استثمار الانتصار العسكري الروسي على شكل عوائد دبلوماسية واقتصادية.

بحسب المتابعين فقد حملت الزيارة ثلاثة عناوين رئيسة: الحل السياسي، والوضع في شرق الفرات، والمسألة الاقتصادية كمدخل لإعادة الإعمار. هذه العناوين الثلاثة لم تتضمن الشأن العسكري كما هو واضح، هذا لا يعني أنّ نقاش الوضع العسكري غاب عن جدول الأعمال، إلاّ أنه لم يأخذ حيّزاً كبيراً، ولعل إسقاط اسم وزير الدفاع الروسي “سيرغي شويغو” من الوفد بعد أن كان من المقرر أن يرافق لافروف، وبدون أي تفسير رسمي من موسكو، له دلالاته التي لا تُخفى على هذا الصعيد.

1.العنوان السياسي:

 أتت الزيارة بعد اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف، وعقب لقاء السيد لافروف مع النرويجي غير بيدرسون مبعوث السيد الأمين العام للأمم المتحدة الذي لاحظ عدم وجود أي عجلة لدى النظام السوري للبحث في صياغة دستورٍ جديد تجري في ظله الانتخابات الرئاسية في يونيو/ حزيران 2021. عدم استعجال لا يبدو مقلقاً لموسكو التي أيدت إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها بغضّ النظر عن أعمال اللجنة الدستورية، والتي اتفق الطرفان على أنّه لا سقف زمني لانتهاء أعمالها.
هذه التصريحات صدمت المتفائلين بأنّ روسيا قد تمارس ضغطاً ما على الأسد من أجل الدخول في عملية حلٍّ سياسي، قد يكون ثمنه إزاحة الرئيس السوري عن كرسيه، أو على الأقل تحديد صلاحياته. فبعد الإعلان عن الزيارة، توقع الكثير من المراقبين إعلاناً روسياً عن مقاربة جديدة للتعاطي مع الملف السوري. وقد تبيّن أنّ جلّ ما يمكن توقعه من روسيا، والتي تعتبر بطبيعة الحال أنّ بقاء الأسد على رأس السلطة في سوريا هو رمزً لانتصارها وعودتها رقماً صعباً في السياسة الدولية، هو تعديل دستوري محدود يرجح المتابعون أن يتم الاستفتاء عليه في مارس/ آذار 2021، تتبعه انتخابات نيابية مبكرة في أمايو/ أيار، على أن تتم الانتخابات الرئاسية في يونيو/ حزيران. ممّا يعني بقاء الأسد مبدئياً حتى العام 2028.
إذا ما صحّ السيناريو أعلاه فإنّ موسكو ستذهب للضغط على المعارضة بدلاً من النظام، بحيث تُسمع من ضمنها أصواتاً لا تمانع في بقاء الأسد، وهذا الاحتمال لا يمكن إهماله خصوصاً بعد اللقاءات التي أجراها بوغدانوف في الدوحة مع معاذ الخطيب، الرئيس السابق ل”الائتلاف الوطني”، والمعروف بمواقفه الأقل تشدّداً تجاه الأسد. مع الإشارة إلى أنّ الدوائر المقربة من مستشاري الرئيس السوري، بشار الأسد، تنقل عنه القول بضرورة طي “فقرة” تشكيل هيئة حكم انتقالية من قرار مجلس الأمن 2254 واستبدالها باللجنة الدستورية، لانتفاء الحاجة لها، على اعتبار أنّ وظيفة هكذا هيئة هي إنقاذ البلد في حالة الطوارئ، بينما يبدو الوضع اليوم مستقراً لحد كبير.

2. شرق الفرات

أتت زيارة الوفد الروسي بعد أيام قليلة من زيارة وفد من مجلس سوريا الديمقراطية “مسد” كممثلٍ للإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا إلى موسكو، بَحَثَ خلالها مع القيادة الروسية ملفات سياسية واقتصادية تتعلق بمشاركة الأكراد في العملية الدبلوماسية القائمة حول سوريا، ومنح موسكو حصة من الاستثمارات في نفط المنطقة الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية، مقابل تسهيل دخول الأخيرة في المفاوضات وفي اللجنة الدستورية وتقريب موقفها مع الجانب التركي، بالتوازي مع زيادة وتيرة التقارب مع دمشق، وهو توجُّهٌ كان مطروحاً ويستدعي سرعةً في البحث والتقرير بشأنه بالتشاور مع الأطراف المعنية، وفي مقدمتهم دمشق بطبيعة الحال. وأثناء الزيارة تمّ توقيع اتفاقٍ بين قدري جميل، المعارض السوري المقرب من موسكو. وبين السيّدة إلهام أحمد المسؤولة الكردية البارزة في مجلس سورية الديمقراطية “مسد”. هذا الاتفاق الذي تضمنت وثيقته الإقرار بمركزية القرار فيما يتعلق بالدفاع والاقتصاد والخارجية. ضمن هذا الملف تسعى موسكو إلى سحب البساط من تحت الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصاً إذا ما فاز المرشح الديمقراطي جو بايدن بكرسي الرئاسة في واشنطن، ذلك أنّ بايدن وعد بالانسحاب من الشرق الأوسط الذي “لا فائدة فيه” على حدّ قوله. ويبدو أن الطرفان، الروسي والكردي، يعيان أنّ ملء الفراغ الذي سيخلفه انسحاب الأمريكان -إذا ما حصل-سيكون من خلال الوجود الروسي، وسيكون أفضل الخيارات المتاحة.

3. المسألة الاقتصادية وإعادة الإعمار  

بحسب مصادر إعلامية روسية، فإنّ لافروف لفت إلى أنّ الوضع في سوريا يتجه إلى الاستقرار تدريجياً، ما يعني أنّ الأولوية التي تتقدّم المشهد هي إعادة الإعمار، مع استنفار المساعدات الدولية. لذلك ربمّا كانت هذه الزيارة هي الخطوة الأولى في إعادة الحياة للمبادرة الدولية التي أطلقتها روسيا في العام 2018 لإعادة الإعمار على أن يكون الركن الأساسي فيها هو ضخ مساعدات اقتصادية وتشغيل استثمارات روسية.

وبالفعل، فقد شكّل البعد الاقتصادي ركناً أساسياً في محادثات الوفدين، خصوصاً إذا ما علمنا أنّ الزيارة جاءت بالأصل في إطار اجتماعات اللجنة العليا الروسية-السورية في دورتها الثانية عشر. هذه اللجنة التي يرأسها من الجانب الروسي السيد “يوري بوريسوف” الاقتصادي الروسي الخبير في مجال الطاقة. لذا فقد ركزت أغلب الاتفاقات على إحياء البنية التحتية لصناعة الطاقة الكهربائية، على اعتبار أن هذا هو المحرك الرئيس للانتعاش الاقتصادي، حيث تُخطِّط روسيا لإعادة بناء حوالي 40 منشأة بنية تحتية في سوريا، ويتضمن ذلك إصلاح محطات للطاقة الكهرومائية التي بناها متخصصون سوفييت. وتشير بعض المصادر إلى أن النظام السوري تقدَّم بطلبين مستعجلين للوفد الروسي: الأول، تزويد سوريا بالطاقة، حيث تشهد البلاد عجزاً كبيراً في هذا المجال، وذلك في ظل توقف الإمدادات الإيرانية نتيجة تعليق خط الائتمان مع سوريا. والمطلب الثاني كان حول إمكانية فتح خطوط ائتمان مع موسكو لتعويض التمويل الإيراني، الذي طالما ساعد النظام على تسيير شؤونه الداخلية. من الطبيعي أن يسعى الجانب الروسي إلى استغلال حاجة النظام السوري للأموال كي يهيمن على الأصول السورية ويضعها تحت سيطرة روسيا، وفي هذا الإطار تشير معلومات إلى أن الجانب الروسي قدّم إلى النظام إغراءات مالية واقتصادية بينها قروض ومنح لتخفيف الأزمة الاقتصادية، وتحسين سعر صرف الليرة السورية. ومقابل ذلك سيكون بالطبع ترسيخ سيطرة الشركات الروسية على مفاصل الاقتصاد السوري، وتكشف تقارير تابعت النشاط الروسي في العامين الأخيرين أن الشركات الروسية سيطرت على مساحة واسعة من الاقتصاد السوري، بحيث أصبحت عوائد عملية الإعمار المقبلة تصب لمصلحتها، مهما تكن الجهة المستثمرة، وبالإضافة إلى الطاقة الكهربائية والموانئ والنفط والغاز ومعامل الأسمدة، تتطلع روسيا إلى السيطرة على قطاعات الاتصالات وصناعة الاسمنت وحديد البناء وسواها من الصناعات المربحة.

ما بعد الزيارة

أتت زيارة الوفد الروسي في خضم متغيرات داخلية وخارجية عديدة، والتي من المرجح أنها قد تؤدي خلال الفترة المقبلة إلى إنهاء متدرج للأعمال العسكرية وتجاوز الاستعصاء السياسي القائم.

وعموماً، يمكن فرز أربعة محاور عملت عليها روسيا خلال المحادثات: إنهاء الحرب، والبحث في طريقة لإضعاف التواجدين التركي والأمريكي، وإشراك مجلس سورية الديمقراطية “مسد” في الجهود السياسية لسحب البساط من تحت الأمريكان، وأخيراً إعادة الإعمار.

لكن الأهم، وغير المصرّح عنه، كان جسّ نبض النظام حول مساعٍ روسية للوصول إلى مزيد من التوافقات مع كلّ من واشنطن وأنقرة، في مقابل إعادة ترتيب لشكل العلاقة مع إيران والتخفيف من دور دمشق في المحور الإيراني، وهو أمرٌ قد يُمهِّد السبيل أمام تطبيع الدول العربية لعلاقاتها مع دمشق والمساهمة تالياً في جهود إعادة الإعمار. ويُظهِر الروس عزماً واضحاً على تحسين الوضع الاقتصادي في سوريا، وتحقيق مزيد من التقدم على مسار إعادة الإعمار، إذ إن انهيار الاقتصاد السوري سيعني خسارة كبرى لمصالحهم الحالية والمستقبلية، فضلاً عن أن إعادة سلطة دمشق على حقول النفط والغاز في الشرق السوري سيكون أمراً جيداً بالنسبة للروس، بالإضافة إلى الاستثمارات النفطية البحرية وباقي الثروات الأخرى والموارد. وإذا نجحت جهود تثبيت وقف إطلاق النار سيكون هناك منطقة خَفْض تصعيد جديدة في شمال شرقي سوريا، غير أن هذا من الصعب أن يتحقق من دون احتواء الأكراد وإيقاف أي عمليات عسكرية تركية محتملة في تلك المنطقة، والشروع في تنفيذ مبدأ اللامركزية الذي تدعمه موسكو في مسودة دستورها الذي قدمته عام 2017، وضمان انخراط قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في مؤسسة الجيش النظامي السوري. إلى جانب تعزيز اتفاق موسكو الموقع بين الروس والأتراك في شهر مارس/ آذار الماضي عبر إرساء الاستقرار في الشمال الغربي من سوريا.

وكان لافتاً توجيه قوات النظام ضربات لموقع تحت سيطرة المعارضة، في الفترة التي تلت زيارة الوفد الروسي، وشاركت الطائرات الروسية بغارات على هذه المناطق، وخاصة ريف اللاذقية الشمالي، كما نشرت روسيا نظام صواريخ “غيرميس” القادر على تدمير الدبابات على مسافة مئة كيلو متر حسب مجلة “المصلحة القومية” الأمريكية وهو ما يُشكِّل تهديداً خطيراً على المدرعات التركية في شمال سوريا. ويعني أن روسيا أرادت طمأنة النظام السوري من جهة، وردع تركيا من أي محاولة لتغيير الأوضاع الميدانية شمال سوريا من الجهة الأخرى.

الحدث الأخطر: اقتتال روسي-إيراني بأيادٍ سورية في جنوب البلاد

إذا كانت روسيا قد طلبت من النظام السوري خلال محادثاتها في سوريا التخلّي عن الوجود الإيراني، والسعي لتعويضٍ روسي سياسي واقتصادي وثقافي بدلاً عنه، فإنّ التجلّي الأخطر لهذا الصراع المخفي قد ظهر في يوم الثلاثاء 29 سبتمبر/ أيلول 2020، تاريخٌ قد يبقى السوريون يتذكرونه كثيراً.

ففي صباح هذا اليوم حدثت اشتباكات عنيفة بين مسلحي “الفيلق الخامس” المدعوم روسياً، والمموّل إماراتياً، وبين الفصائل المحلية من أبناء السويداء التي يتلقى معظمها دعماً إيرانياً، وكان اللافت في هذا الإطار دخول “رجال الكرامة” لمساندة الفصائل المحلية. و”رجال الكرامة” هو فصيل درزي مسلّح أسّسه رجل الدين البارز “وحيد البلعوس” الذي قُتل على يد النظام في تفجير استهدف سيارته في العام 2015.

الاشتباكات التي دارت في محيط منطقة القريا وأطرافها في ريف السويداء الغربي عند الحدود الإدارية مع ريف درعا الشرقي، والتي خلّفت أكثر من 100 ضحية ما بين قتيل وجريح، حدثت إثر قيام عناصر الفيلق الخامس بإطلاق صاروخ موجه على قرية “المجيمر” بالريف الجنوبي الغربي لمحافظة السويداء. عملياً، وحتّى هذه اللحظة، لم تشهد البلاد حوادث طائفية إبّان أزمتها (ما عدا حادثة واحدة جرت في حمص في بداية الثورة)، بمعنى أنّ كلّ الصراع كان يدور حتّى الآن بين نظام ومعارضة مسلحة. لذا فإنّ خطورة الحدث الأخير تأتي من أنه ربمّا يؤسّس لاقتتال سني-درزي لم تشهده سورية في عصرها الحديث على هذا النطاق، كما أنّه يجري في ظلّ صمت النظام واكتفائه بالمراقبة في خطوة لا تعكس ضعفه بقدر ما تعكس مصالحه، إذ أنّه سيسعى حتماً لوضع دماء الضحايا على طاولة البازار الروسي-الإيراني في انتظار مكاسب سياسية ومالية أكبر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق