ثقافةرأي

كونوا إطفائيين، لا مشعلي حرائق

إن استمرار الكارثة السورية مرهون في أحد جوانبه باستمرار حالة التنابذ بين السوريين

حسام ميرو

من المعروف والمفهوم تاريخياً وسياساً أن تستخدم الأنظمة الاستبدادية كل ما هو متاح لها من أدوات من أجل الاستمرار، ولا تتوانى في لحظات تمرّد شعوبها عليها من إشعال الواقع والمجتمع بحرائق عديدة، في دفاعها المحموم عن مكتسباتها ونفوذها وبقائها، في معركة تعدّها معركة وجود وبقاء واستمرار.

ليست الطائفية بالنسبة للأنظمة السياسية سوى واحدة من الأدوات في أزمنة الثورات لتقسيم الشعب، لتحويل وحرف أهدافه الوطنية الجامعة عن مسارها، ولجعل الانتفاضة ذات المطالبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية تبدو وكأنها انتقاماً طائفياً، أو حرباً ضد طائفة ما من قبل طائفة أخرى، فهذا من وجهة نظر النظام السياسي كفيل بأن يدفع الكثيرين للخوف أو التشدد أو التقوقع، ولدى الأنظمة الإمكانات والقدرات والخبرات لدفع الأمور في هذا الاتجاه، خصوصاً في مجتمعات متعددة الأعراق والأديان والطوائف، كما هو الحال في وطننا السوري.

الثورة، الانتفاضة، حركة التغيير، كلها تصب في خانة الصراع السياسي، وهي محاولات من أجل فتح آفاق التاريخ على مسار جديد، واستبدال نظام سياسي أصبح معيقاً للتاريخ نفسه، ولم يعد يلبي الاحتياجات التي تراكمت في الواقع من دون حلول، ولم يعد بالإمكان إنجاز أي تقدم من دون استبدال النظام السياسي القائم بنظام سياسي آخر يكون أكثر مطابقة للاحتياجات الواقعية، وبهذا المعنى فإن أي حرف للصراع عن مساره السياسي لن يكون في خدمة الحالة الوطنية، ولا في خدمة مشروع التغيير نفسه، بل سيكون مضاداً للدوافع والأهداف التي دفعت الناس إلى الانتفاضة والدعوة إلى تغيير النظام السياسي.

وفي خضم الصراع السياسي، نحن لا نستطيع أن نطالب الخصم بعدم استخدام ما لديه من أدوات أو أوراق يستخدمها للبقاء والاستمرار، ومنع التغيير الذي سيطال مصالحه ونفوذه، لكن من واجبنا أن نعرف كيف يعمل الخصم السياسي، وما هي الأدوات والمسارات التي سيسلكها، والمطبّات التي يريدنا أن نصطدم بها، والانزلاقات التي يتمنى أن نقع فيها، وفي هذه المعرفة لمنهج وأدوات وإمكانات الخصم السياسي تكمن إحدى ركائز المواجهة الاستراتيجية، وبناء تكتيكات العمل السياسي.

إحياء الهويات العرقية والدينية والطائفية والمناطقية والعشارية كان ضرورياً من قبل النظام السياسي السوري من أجل تقسيم الحراك الشعبي والسياسي، ولديه خبرات متراكمة سابقة من ملفي لبنان والعراق، كما أنه يمتلك معرفة بالسيناريوهات التي يمكن أن تحدث في حال دُفعت المسارات الاحتجاجية إلى تبني العسكرة، أو التطييف، فهو بذلك يمتلك الحجة والدليل على أن الحركة الاحتجاجية مدفوعة بأبعاد طائفية، وهو بذلك يمكن أن يعيد تأكيد مشروعيته كنظام وطني، يقف في وجه حركات طائفية راديكالية إرهابية.

في المقابل، لم تتمكن المعارضة الرسمية، التي نالت في وقت من الأوقات تأييداً دولياً واسعاً، من فهم وإدراك إمكانات خصمها السياسي، ولم تضع في حساباتها أن تنأى وأن تعمل على عدم الذهاب نحو السيناريوهات التي يريدها الخصم، وأن تقف بأي ثمن ضد نمو الحركات الدينية المسلحة، وأن تبقي على الخطاب والممارسة الوطنيتين كبوصلة وحيدة لعملها، لكنها، والشواهد أكثر من أن تحصى، صمتت أو أسهمت في شرعنة القوى الدينية المسلحة، واعتبرت بعضها جزءاً من المعارضة نفسها، بل وضمت بعضها إلى هيئاتها.

جنود سوريون يقومون باطفاء بعض الحرائق في ريف اللاذقية

اليوم نحن أمام حقائق راسخة في الحريق السوري الذي التهم قسماً كبيراً من الاجتماع السوري، عدا عما التهمه من إمكانات وطنية عديدة، بشرية وعمرانية واقتصادية، وانخرطت فئات شعبية واسعة في خطاب الكراهية، ولهذا أسبابه التي تحتاج إلى المزيد من البحث السياسي والاجتماعي، مع الآخذ بالحسبان أن ردّات الفعل العامة يجب قياسها ضمن إطار مفاعيل السنوات السابقة، وفي إطار الهشاشة التي أصابت الاجتماع السوري في كل مقوماته.

إن استمرار الكارثة السورية مرهون في أحد جوانبه باستمرار حالة التنابذ بين السوريين، وهي الحالة التي عبّرت عن نفسها في أكثر من ظاهرة، ليس الوعي الطائفي إلا واحداً منها، فهناك التبعية للاحتلالات الموجودة، وتغليب الخاص على العام، وليس من مخرج ممكن سوى بالعمل على تفكيك حالة التنابذ، وهو مرهون بعوامل يتداخل فيها الموضوعي مع الذاتي، لكن التأثير بالعامل الموضوعي لن يكون ممكناً إلا من خلال العمل على تفكيك العوامل الذاتية، وهذا عمل متعدد المجالات، وفي مقدمته العمل السياسي والفكري والإعلامي، وهي مسائل منوطة بشكل كبير بالقوى السياسية والمثقفين والمؤثرين في الرأي العام السوري.

القوى السياسية السورية تبدو مشغولة بأمور بعيدة كل البعد عن مواجهة حالة التنابذ السوري، وأصبح بعضها إما مشاركاً فيها، أو صامتاً عنها، أو لا يضعها في عمله كأولوية، وإذا كانت القوى المعارضة الديمقراطية والعلمانية هي أكثر من ينبغي أن تخيفهم حالة التنابذ السوري، فإن هذه القوى هي بحد ذاتها لا تضع في برامجها أي خطة للتقارب فيما بينها، أو حتى التنسيق المشترك، أو الاتفاق على ثوابت محددة في الخطاب، من شأنها أن تمنح المشهد العام بعض الأمل بإمكانية ترميم ما أحدثته الحرائق السورية المستمرة.

للعمل السياسي أدوار مختلفة، متبدلة بحسب اللحظة التاريخية، وما وصل إليه السوريون يحتّم أن يلعب السياسيون دور رجال الإطفاء، إذ لا يمكن أن تكون الأحقاد بوصلة سياسية، بل الإحساس بالمسؤولية تجاه الناس، والقيم التي يدعي السياسيون الدفاع عنها، وعدم ترك الساحة فارغة أمام مشعلي الحرائق الذين يشبعون هوسهم المرضي، ويدارون النقص في إحساسهم الوطني.

إنها مهمة لا تقل عن مهام كبرى أخرى في العمل السياسي السوري، مهمة إطفاء الحرائق في بلد يشتعل منذ سنوات.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق