رأي

لماذا تقدمت ماليزيا وتراجعت سوريا؟

العاصمة الماليزية كوالالمبور

د. رفعت عامر

تكملةً للمقال السابق في هذا السياق، سنذكر أهم العوامل التي كانت أساساً في تقدم ماليزيا، بعد أن كانت متأخرة عن سوريا في خمسينيات القرن الماضي وهي:

  • قيام الحكومة الماليزية بين عامي1970-1990م، ثم من 1991 إلى 2020م، بوضع عدد من الخطط الخمسية في إطار استراتيجية طويلة المدى، والتي أطلق عليها مهاتير محمد “رؤية 2020م”. وهذه الرؤية جاءت لتنقل ماليزيا إلى مصاف الدول المتقدمة.
  • توجهت القيادة الماليزية بسياساتها وخططها في المرحلة الأولى إلى الشرائح السكانية الأشد فقرا من خلال تنفيذ برامج تنموية، قدمت فيها قروضا للأعمال والمشاريع المولّدة للدخل وقروضا بدون فوائد للفقراء من السكان الأصليين، تهدف الى تقليص الفوارق الاجتماعية ومحاربة كل أشكال التمييز، فقد أنشأت مساكن بتكلفة قليلة ورممت بعضها، وقدّمت إعانات مالية لمن يرعى أسرة أو يعتني بمريض أو معوق أو عاجز، وخُصّصت اعتمادات مالية لمشاريع اجتماعية موجهة لتطوير الريف، وتوفير مرافق البنية الأساسية الاجتماعية والاقتصادية في المناطق النائية الفقيرة (النقل، الاتصالات السلكية واللاسلكية، المدارس، الخدمات الصحية). ونتيجة لذلك، وُزعت ثمار التنمية على كل المناطق وكل الفئات، ما أسهم في القضاء على أسباب هجرة أبناء الريف إلى المدينة، وتقليص الفوارق الطبقية بين السكان، وإزالَة الشعور بالظلم.
  • كما تميزت التجربة الماليزية في محاربة ظاهرة البطالة، بفضل السياسات والاستراتيجيات الرشيدة التي قامت على أساس الاستغلال العقلاني للموارد المتاحة، والاستغناء عن العمالة الأجنبية، والاكتفاء بالعمالة المحلية، والاعتماد على مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية في تلك الاستراتيجيات بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت الدروس المستقاة من هذه التجربة منطلقاً للعديد من الدول التي لازالت تتخبط شعوبها في مستنقعات موحلة من البطالة والفقر وتدني مستوى المعيشة، ونتيجة لذلك نجحت ماليزيا في خفض معدّلات الفقر من 49.3% من السكان عام 1970،إلى نحو 5% في عام 2004.
  • الاستثمار في الموارد البشرية، حيث خُصصت 25% من موازنة الدولة للاستثمار في الإنسان، من تعليم وصحة وخدمات اجتماعية وتطوير المستوى المهني، من خلال التدريب وإعادة التأهيل والإنفاق على البحوث والتطوير، بوصفها الخيار الأمثل لتقدّم البلاد، ورفع مستوى رفاه الإنسان، والذي كان هدف التنمية وأداتها.
  • دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة في المجال الزراعي والصناعي، والتركيز فيما بعد على المنتجات المكثفة للمعرفة، التي تطلبت من الحكومة استراتيجيات وخطط وبرامج، أدخلت ماليزيا في عصر المعرفة، والدخول للأسواق العالمية بقدرات تنافسية عالية.
  • استطاعت القيادة الماليزية المزج بين العناصر الإيجابية الموجودة نظرياً في الثقافة والتاريخ الإسلامي مع القيم العصرية للمجتمعات الحديثة، لتشكل منها منظومة قيم ليبرالية، بمفهومها الواسع السياسي والاقتصادي والثقافي والقانوني والاجتماعي، قيم تحثّ على المساواة بين البشر على أساس المواطنة، بصرف النظر عن الدين والمذهب والعرق، والمساواة بين الرجل والمرأة، وتطبيق مبدأ الشورى في الإسلام، الذي تتبجح به أنظمة الحكم في العالم الإسلامي من دون تطبيق له، ودمجه مع منظومة القيم الديمقراطية للدول الحديثة، من بناء دولة القانون والمؤسسات واحترام حقوق الانسان.
  • الانفتاح على العالم والاندماج في العولمة، مع الحفاظ على الهوية الوطنية، والاستفادة من الدخول في التكتلات الإقليمية.

الدروس والعبر من التجربة التنموية الماليزية للسوريين بعد زوال النظام.

  • الانتقال خلال فترة زمنية قصيرة (أربعة عقود فقط) من بلد يعتمد على الزراعة وإنتاج السلع الأولية (القصدير والمطاط ونخيل الزيت) إلى دولة صناعية، تحتل مركزاً مرموقاً في الاقتصاد العالمي.
  • انسجام الثقافة الإسلامية للأغلبية المسلمة والخلفية الإسلامية لنظام الحكم فيها مع الثقافة والمناهج العصرية ونمط الإنتاج الرأسمالي، ما يقدم نموذجا عن كيفية تعايش واندماج المسلمين في الثقافة ونمط الحياة العصرية الذي تفتقد إليه غالبية المجتمعات والحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، فقد شكلت هذه التجربة اختراقا وخروجا عن المألوف، لما هو سائد من قناعات رسختها مدارس الاستشراق الغربية، على أن التخلّف صفة أصيلة ولصيقة بالإسلام والمسلمين، وقيد لا يمكن الانفكاك منه.
  • أعطت التجربة الماليزية دليلاً على أن توفر الإرادة السياسية مع تحقيق التقدم الاقتصادي الذي يعود بثماره على الشعب، يمكن أن يتحقق في البداية من دون ثورة ثقافية، كانت قد شهدتها بلدان أخرى متطورة.
  • اعتبارها نموذجا يحتذى به بالنسبة لكثير من الدول التي تعاني من الانتشار الواسع للبطالة، التي شكلت أحد أهم الأسباب الاقتصادية المحركة لثورات الربيع العربي. فهي ثمرة استراتيجية وطنية شاملة تفاعل فيها الحاكم والمحكوم، وتجلّت في علاقة الرضا، التي أسست ثقة متبادلة وفرت الدعامة الملائمة لنجاح تجربة إنسانية متميزة.
  • قد بينت التجربة الماليزية، أن القدرات التنافسية للاقتصاد المحلي، وتحقيق مؤشرات نوعية على مستوى الصناعة، ومنافسة أكثر الدول المتقدمة في مجال الصناعة والخدمات والسياحة، أمور يمكن تحقيقها بأقل من أربعة عقود، بحضور الجيل المتعلّم والعلوم العصرية والإدارات الناجحة والقيادات الوطنية والإرادة السياسية، بصرف النظر عن فقر الموارد المادية للدولة، وغياب الإرث الصناعي.

وأخيرا، تعطينا التجربة الماليزية دليلا قاطعاً على خروج كلّ حركات الإسلام التكفيرية في العالم العربي عن العصر وقيمه، وتؤكد على غياب إمكانية العمل بالشريعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية، وتؤكد على أنه ليس في عصرنا من إمكانية لبناء نموذج اقتصادي إسلامي، فقط يمكننا الاسترشاد بالقيم الإيجابية الخلاقة للإسلام، وهذا ما سنكون بأشد الحاجة إليه في سوريا بعد تغيير النظام السياسي القائم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق