لا إحباط : أمامنا عمل كثير
مقولة مفادها "أن الحل خرج من أيدي السوريين"، وقبول هذه المقولة بحدّ ذاته فيه انتقاص، ليس فقط من السوريين، بل من الأثمان التي دفعت خلال السنوات الماضية،

بقلم : حسام ميرو
صورة الشعوب والدول والأمم، التي هي صورة التاريخ الإنساني في صعوده وهبوطه، ولكن أيضاً بالمجمل صورة تقدّمه، حافلة بالمأساة، لكن المأساة وحدها، مُجردة من عنصر ي الوعي والعمل، ليس لها أي فاعلية خاصة، فإذا أردنا وصف المأساة بأنها الثمن الذي يدفعه البشر نتيجة صراعات على النفوذ أو نتيجة الموقع الطبقي أو الاجتماعي، أو حتى نتيجة ثورتهم على السلطات الحاكمة، ففي المحصلة، فإن الثمن المدفوع قد يكون له معنى أو لا يكون، ويبقى إنتاج المعنى هو مسؤولية البشر الذين يريدون ألا تذهب الأثمان والتضحيات التي دفعوها هباءً.
المأساة، رغم شرورها الكثيرة، ليست شرّاً مطلقاً، فكل مأساة، كما تدفن معها جزءاً أو أجزاءً من الماضي، فهي تفتح الأبواب على احتمالات جديدة، لم يكن بالإمكان تخيّلها لولا وقوع المأساة نفسها، فإذا ما نظرنا إلى الحرب العالمية الثانية، وعشرات الملايين من الضحايا الذين لقوا حتفهم بسببها، سنجد أنها شكّلت، على الرغم من مأساويتها، المدخل التاريخي، أو الممكن التاريخي، لولادة منظومة الأمن والاستقرار في أوروبا، وتغليب منطق السلم على منطق الحرب بين الدول، وهو ما منح قسماً كبيراً من الدول الأوروبية الفرصة لإعادة إنتاج نفسها بطريقة مغايرة، أكثر مطابقة لاحتياجاتها واحتياجات شعوبها.
الأثمان التي دفعها الأوروبيون في الحرب العالمية الثانية لم تذهب بالمعنى التاريخي سدى، بل حوّلوها من كارثة كبرى إلى فرصة كبرى، وورشة عمل سياسية واقتصادية وتكنولوجية وأكاديمية، بل أن ذاكرة تلك الحرب/ المأساة لا تزال تشكّل درساً لا يمكن القفز فوقه، من أجل ضبط الصراعات الاجتماعية، لمنع تصاعدها إلى الدرجة التي يمكن فيها أن تهدّد أمن وسلامة مجتمعاتها، أو تدفع نحو مواجهات بين الدول الأوروبية.
في التجربتين العراقية واللبنانية، المأساويتين بكل معنى الكلمة، ليس فقط نتيجة ما دفعه الشعبان من أثمان، بل أيضاً نتيجة دوران هاتين التجربتين في حلقة مفرغة، من دون إنتاج أي معنى جديد، فمأساة لبنان المتمثلة بالحرب الأهلية بين عامي 1975 م1989، كان يمكن لها أن تنتج أفقاً سياسياً واجتماعياً مغايراً، للخروج من الطائفية السياسية، وإعادة إنتاج السياسة من منظور حديث عابر للانتماءات ما دون الوطنية، لكن ما حصل بعد اتفاق الطائف في عام 1989، كان إعادة إنتاج الحرب بأشكال جديدة، ولا يمكن الاكتفاء بإلقاء اللوم على القوى الإقليمية والدولية، ففي ذلك نفي غير موضوعي، وغير محق، لمسؤولية اللبنانيين عن استمرار البنى الطائفية وتمثيلاتها السياسية في نهب وتدمير مقومات الحياة بكل أشكالها.
ما ينطبق على لبنان ينطبق على العراق، فقد كان بالإمكان تحويل نهاية العهد الديكتاتوري، بعد سقوط نظام صدام حسين، إلى فرصة تاريخية، لبناء دولة ومجتمع غير طائفيين، وترسيخ نظام حكم ديمقراطي، ونظام إدارة مبني على الحوكمة، لاستثمار الثروات والموارد الكبيرة التي يمتلكها العراق، وتحويل هذا البلد إلى رافعة حقيقية لأبنائه ولعموم المنطقة، لكن ما حصل فعلياً هو تفتيت كل مقومات الدولة، وترسيخ نظام المحاصصة الطائفية، ونهب الموارد والثروات، وتحويل الفساد إلى نمط يحكم كل مؤسسات الدولة، حتى يكاد يكون العراق اليوم اسماً على الخريطة، وليس بلداً موجوداً في الواقع، وما يقال عن مسؤولية اللبنانيين يقال عن مسؤولية العراقيين، فإذا لم يكن بالإمكان القفز فوق موازين القوى الإقليمية والدولية، فإنه من الخطأ الجسيم نفي المسؤولية عن العراقيين، فمن يتعامل مع القوى الخارجية هم عراقيون، ومن ينهبون بلدهم عراقيون، ومن يقومون بالمحاصصة عراقيون، ولذلك فإن ما كان ينبغي له أن يكون فرصة تاريخية لتحويل العراق إلى بلد حديث ومزدهر، تحوّل إلى مأساة جديدة بيد العراقيين أنفسهم.
إن ما حدث في سوريا هو مأساة تاريخية معاصرة، غير مسبوقة في بعض جوانبها، وإذا كان السوريون قد دفعوا أثماناً باهظة خلال السنوات الماضية، فحري بهم ألا يجعلوا تلك الأثمان تمضي من دون أن يكون لها أي معنى تاريخي ووطني وسياسي وإنساني، ففي قلب هذه المأساة فرص كثيرة وثمينة تنبغي رؤيتها، وأولها أنه بالإمكان أن يكون السوريون هم المقررون لمستقبل بلدهم، وعدم ترك القوى الإقليمية والدولية، وهي لطالما متروكة منذ سنوات، في تحديد ملامح هذا المستقبل.
أشاعت القوى الإقليمية والدولية، وقوى سياسية سورية، مقولة مفادها “أن الحل خرج من أيدي السوريين”، وقبول هذه المقولة بحدّ ذاته فيه انتقاص، ليس فقط من السوريين، بل من الأثمان التي دفعت خلال السنوات الماضية، وكأنها بلا أي معنى، كما أن قبولها من قبل السوريين بأنها حقيقة مطلقة هو أسوأ شكل من أشكال التخلي عن المسؤولية بكل أبعادها، فمع الاعتراف بأن القوى المنخرطة في الصراع السوري أصبحت أكثر تأثيراً من السوريين، لا ينبغي تحويل هذا الاعتراف إلى وصفة للإحباط، بل إلى تحدي حقيقي على مختلف الصعد، في مقدمة هذا التحدّي إعادة موضعة الذات في دائرة الفعل، وعدم التملّص منه.
أمام السوريين عمل كثير، وتحديات أكثر، وهو ما يمكن أن يجعل من حياتهم ورشة عمل تاريخية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، بل أنها ورشة من أجل المعنى ذاته، بما فيه معنى الوجود.