أخبار سورية

تقرير سياسي حول  التطبيع العربي مع “دمشق”

خلال الأشهر الأخيرة، بدأت تتمظهر حالة من التطبيع السياسي بين دول عربية عدة وبين “النظام السوري”، وأخذت شكلاً مباشراً بعد كارثة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا ومدن عديدة في سوريا، وذلك من بوابة العمل الإغاثي، وتقديم المساعدة للمنكوبين. 

لكن هذا التطوّر في المواقف، سبقته خطوات ملموسة، بدأتها دولة الإمارات العربية المتحدة، منذ أن أعادت فتح سفارتها في دمشق في نهاية عام 2018، والتي تلتها خطوات على مستوى أعلى، وصولاً لزيارة “الرئيس” السوري إلى أبو ظبي، وأيضاً تقديم الأردن لمبادرة سياسية، مؤسسة على دور عربي مباشر. 

هذا التحوّل في المواقف، لم يقتصر فقط على دول عربية، بالتوازى مع مسار آخر، هو مسار للتطبيع بين أنقرة ودمشق، تضمّن لقاءات أمنية، وحوار سياسي رباعي (سوريا، تركيا، روسيا، إيران)، بدعوة من موسكو. 

أيضاً، كانت هناك زيارة ل”الرئيس” السوري إلى موسكو، ولقائه الرئيس فلاديمير بوتين، والتي جاءت بعد عام تقريباً من بدء الحرب الروسية الأوكرانية. 

تحوّلات دولية وإقليمية: 

بعد أن انقضت الأشهر الأولى من الحرب الروسية ضد أوكرانيا، بدأت تتكشّف الأوهام الروسية حول إمكانية تحقيق نصر سريع وخاطف، وأن الحرب ذاهبة نحو حالة استنزاف، بشكل خاص للقوات الروسية، وهو ما تزامن مع آلاف العقوبات من الغرب وحلفائه ضد قطاعات حيوية روسية، من بينها القطّاع المالي، وفرض سقف لسعر تصدير النفط والغاز الروسيين، وتأمين أوروبا مصادر بديلة عن الغاز الروسي، الذي كان أحد أهم نقاط القوة والضغط بيد موسكو على أوروبا، وتحديداً ألمانيا. 

بالنسبة للملكة العربية السعودية، ظهرت خطوات جدية لتنويع سلّة الحلفاء والشركاء، في محاولة لتجنّب تقلّبات السياسات الأمريكية، التي بدأت أولى مشكلاتها في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما. 

اتّخذت الرياض وبكين خطوات مشتركة عديدة، لتمتين العلاقات بينهما، توّجت بقمة صينية سعودية- خليجية، ولاحقاً ظهر دور بكين الأساسي في مسار التطبيع بين الرياض وطهران ( اتفاق بكين)، الذي انعكست أولى نتائجه في الساحة اليمنية. 

محاولة عكس المسارات :

ثلاثة أطراف رئيسية في الإقليم تحاول عكس مسار السياسات التي عرفتها المنطقة في سنوات ما بعد عام 2011. 

تركيا:

 مع انطلاق ثورات الربيع العربي، استبدلت أنقرة سياسة “تصفير المشكلات” التي تأسست عليها سياسات حزب “العدالة والتنمية” في العلاقات الخارجية، و انخرطت في صراعات المنطقة، في محاولة لكسب مساحة نفوذ إضافية، لكن المآلات الواقعية لسياساتها الجديدة، كانت على خلاف التوقعات، فقد خسرت تركيا استثمارات كبيرة من دول الخليج، في مجالات العمران والسياحة والسلع والمال، ولم تحقّق الأوراق التي اعتمدت عليها ما كان مرجوّاً منها، وتراجعت مجمل علاقاتها بأوروبا، وأتت أزمتي كورونا، وموجة التضخّم العالمي، ويضاف لها كارثة الزلزال، لتعمّق من جراحات الاقتصاد والمال والسياسة. 

المساعي التركية في العامين الأخيرين تجاه محور الخليج- مصر، هي بمثابة إقرار بفشل سياسة الانخراط الواسعة في مشكلات المنطقة، وتظهر الحاجة إلى ترميم العلاقات واستعادتها، في محاولة لتغيير المعادلات الداخلية إلى الأفضل. 

إيران: 

على الرغم من خطوات عديدة، أمريكية وغربية للوصول إلى اتفاق نووي جديد مع طهران، إلا أن هذه الخطوات لم تكن مثمرة، وهناك استنزاف مالي لإيران على مدار سنوات في دعم حلفائها في سوريا ولبنان واليمن، في ظل استمرار العقوبات الأمريكية والغربية عليها، وتنامي الاحتجاجات الشعبية الداخلية، في الوقت الذي مضت فيه السعودية والإمارات إلى التطبيع مع إسرائيل، بكل ما يتضمّنه هذا التطبيع من تعاون في مجالات السياسة والأمن والدفاع. 

الحليف الروسي لإيران في وضع دولي سيء، وهناك حاجة لدى النظام الإيراني للخروج من حالة الاستنزاف المالي في حروب تبدو معقدة، ولا توازي فوائدها المتحقّقة الأثمان التي تدفع فيها، كما ترى طهران أن استعادة العلاقات مع الخليج من بوابة بكين، سيسهم في تحويل استثمارها العسكري لفوائد سياسية ومالية. 

المحور الخليجي- المصري:

ظهرت أولى مفاعيل هذا المحور في مجيء الرئيس عبد الفتاح السيسي للسلطة، وتابع عمله في جبهات عديدة، أهمها ضرب مشروع الإسلام السياسي في عموم المنطقة، ودفع الحليف الأكبر لهذا المشروع، أي تركيا، لمراجعة حساباتها نحوه، وهو ما يحصل منذ أكثر من عام. 

تعيد السعودية بشكل أساسي قراءة التحوّلات الدولية، حيث مضت خطوات نحو إحداث تحوّل يفضي إلى سحب الذرائع التقليدية الغربية فيما يخصّ موضوع الحريات في داخلها، وإبراز وجه ليبرالي للمملكة. 

كما وصلت معاركها في اليمن إلى حالة من الركود، فلم يعد ممكناً إحداث نصر عسكري فارق، بعد أن استنزفت الحرب أموالاً طائلة. 

تولي السعودية الداخل الأهمية الأكبر، في مشروع 2030، وتحاول توفير ظروف إقليمية ودولية أقلّ توتراً، وفي هذا المنحى، يأتي تقاربها الجديد مع إيران. 

الساحة السورية: 

القوى الثلاث الرئيسية، الخليج وإيران وتركيا، بالإضافة إلى إسرائيل، لديهم قراءات واقعية لحدود سياساتهم في الساحة السورية، ولموازين القوى الداخلية، فقد انحسرت المعارضة العسكرية للنظام في الفصائل الإسلامية الراديكالية في إدلب، التي لا توجد فيها أية مقوّمات اقتصادية ومعيشية، وتعتمد بشكل رئيسي على المعونات الأممية. 

في شمال شرق سوريا، لا تمثّل الإدارة الذاتية قوّة يعتد بها، من دون الحماية الأمريكية، كما أنها استعانت بقوات النظام غير مرة، لحماية الحدود، بعد عمليات عسكرية تركية ضد مناطق سيطرتها، كما أن مؤسسات الحكومة السورية لا تزال تعمل فيها. 

النظام السوري اليوم ليس هو نظام ما قبل 2011، فهو بقي موجوداً، بشكل رئيسي بقوة حلفائه، وأوضاعه الاقتصادية في أسوأ حالاتها، مع الأوضاع المعيشية الكارثية، بعد أن أصبح حوالي 90% من المواطنين تحت خطّ الفقر، وتردّي مستوى الخدمات، وأحياناً غياب بعضها بشكل شبه كلي. 

حدود التطبيع العربي مع “النظام السوري”: 

بعد كارثة الزلزال، وحصول زيارات سياسية عربية إلى دمشق، وحتى بعد ختام قمة جدة التي ناقشت عودة العلاقات مع سوريا، صدرت بيانات عديدة، اتّسمت لغتها بالحذر، تعكس رغبة بعدم إعطاء أي انطباع بأن هذه العودة غير مشروطة، أو أنها تقطع بشكل نهائي مع القرار الأممي 2254، بشأن طبيعة الحلّ السياسي في سوريا.

هناك ملفّات صعبة ضمن نطاق التفاوض العربي مع دمشق، في مقدّمتها ملف اللاجئين في دول الجوار (تركيا، لبنان، الأدرن)، وملف ضبط الحدود، وعدم تصدير المخدرات، والقيام بإجراءت سياسية ضمن حدود توحي بحالة انفراج سياسي داخلي/ وطني. 

في سبيل دعم موقف دمشق، أو دفعها نحو الأمام، كان لا بد من تقديم “عربون” دفعة أولى سياسية للنظام، تمثّلت بتأكيد المحور الخليجي- المصري على ضرورة بسط الحكومة السورية كامل سيادتها على أراضيها كافة. 

يأمل “النظام السوري” أن تسهم الخطوات العربية في فك العزلة السياسية عنه، وإعطائه دفعة قوية من الشرعية، والأهم من ذلك هو أن المضي ببعض الخطوات الملموسة في التطبيع معه، ستمنحه إمكانية موازنة علاقات القوة مع طهران وموسكو.

لدى الخليج عموماً سجل سياسي مع “النظام السوري” مملوء بالتقلبّات والانقلابات في المواقف، وسيفرض هذا السجل نفسه في طريقة إدارة وتقييم الخطوات التي سيقدم عليها “التظام” فيما يخصّ الإجراءات العديدة التي يفترض أن يقوم بها. 

هناك أيضاً المعارضة الأمريكية والأوروبية (أقلّه في الجانب المعلن) ضد أية إجراءات لا تتوافق مع القرار الأممي 2254، أو  تقديم أية مساعدات من شأنها أن تشكّل خرقاً للعقوبات المفروضة على النظام. 

انعكاسات مسار التطبيع: 

في جوانب معيشية وإنسانية، سينعكس هذا المسار بشكل إيجابي نسبياً على الأوضاع الداخلية، لكن دوماً في إطار محدود.

معالجة ملف اللاجئين بحاجة إلى وجود مقوّمات أمنية وقانونية ومالية ولوجستية، لن يكون بالإمكان توفيرها بسهولة وسرعة، ونظراً لتجارب عديدة بهذا الشأن، فإن التعامل مع هذا الملف يحتاج إلى سنوات عديدة، ويعتمد بشكل أساسي على أمرين: الحلّ السياسي المقبول، ووفرة الأموال. 

لأسباب عديدة، من بينها الرفض الأمريكي والأوروبي الراهن للتطبيع (قد يشهد تحوّلات ما لاحقاً)، وأوضاع مالية عالمية مضطربة، لا تبدو إمكانية تأمين الأموال المطلوبة لحلّ هذا الملف موجودة بقوة. 

في مجال مراقبة وضبط الحدود، هناك سهولة نسبية لدى “النظام” في منع تدفق المخدرات، لكن مع التفاوض على تأمين أموال لدعم أوضاعه الداخلية. 

بالنسبة لشمال غرب سوريا (إدلب) وشمال شرق سوريا (الإدارة الذاتية)، سيضعف هذا المسار، ولو في حدوده الأدنى، موقف هاتين القوتين، وهو ما ظهرت أولى بوادره في المبادرة التي قدّمتها الإدارة الذاتية للحلّ في سوريا، لجهة المطالب من جهة، أو لجهة اللغة التي طُرحت فيها. 

بالنسبة للمعارضة السياسية، فإن الإخوان المسلمين بصفتهم الحزبية، ومشروعهم السياسي، سيعانيان من ضعف وحصار، فمعظم الأطراف الداخلة في هذا المسار الإقليمي تحمّلهم جزءاً كبيراً من مسؤولية المآلات السورية، كما أنهم يعملون على إضعاف استراتيجي- تاريخي لهذا المسار. 

المعارضات “الديمقراطية”، بأوضاعها الحالية ليست قادرة على أن تكون جزءاً فاعلاً من هذه العملية، بمعنى أنها لا تمتلك أية مقومات لإعاقة المسار في حال مضى أشواطاً أبعد من الصورة الأولية الحالية، وكذلك، لا تسمح لها أوضاعها بأن تنخرط  للمشاركة في حصد مكاسب سياسية على المديين المنظور والمتوسط. 

رأي حزبنا السياسي: 

هناك حاجة ماسّة لقراءة الواقع من دون أوهام (قراءة مطابقة للواقع)، خصوصاً التحوّلات الجارية في قراءة القوى الفاعلة في الإقليم لما آلت إليه الصراعات، ورغبتها في تقليل المشكلات كمّاً ونوعاً، والخروج من حالة الاستنزاف السياسي والاقتصادي، بالإضافة إلى أن مسار الحلّ السياسي في سوريا، منذ بيان جنيف1 في 30 يونيو/ حزيران 2012، مروراً بجولات تفاوضية عديدية في جنيف وأستانة ومؤتمر سوتشي، بقي يراوح في مكانه، مع ازدياد مستمر في ضعف وعطالة أداء المعارضة السورية.  

نعتقد بوجود عقبات عديدة، ستقلّل من إمكانية توسّع حدود هذا التطبيع، أو إمكانية استفادة “النظام” بشكل نوعي منه، لكنه ما زال بعد هذه السنوات من الصراع هو القوة الأكبر، وهي القوة التي لا تزال تحتكر بشكل كبير صفة الدولة والمؤسسة. 

صحيح أن رفض هذا المسار بصورته الراهنة، ينطوي على موقف سياسي-أخلاقي، بعد الدمار متعدّد الأوجه الذي أصاب البلاد ومواطنيها، لكن في جانب منه، خصوصاً إذا ما مضى هذا الموقف إلى اعتماد قراءة تعتقد بفشل كلّي لهذا المسار، فإنه يظهر 

حينها نقصاً في الوعي السياسي، ومكابرة في رؤية التحوّلات، وزيادة منسوب الأوهام التي أصبحت المعارضة السورية مضرب مثل فيها. 

يعتقد حزبنا أن الأرضية المطلوبة للتعاطي مع أية مبادرات بالشأن السوري، ينبغي أن تكون لها مرجعيات مرتبطة بمدى تحقيقها لمصالح سوريا والسوريين، وأنه في هذا المجال، فإن واحدة من فوائد هذا المسار هي التأكيد على وحدة البلاد، وضرورة وجود سيادة للحكومة عليها. 

لكن هذه الفائدة، ستكون غير ذات قيمة إذا لم تندرج في إطار تحوّلات تفضي إلى حلّ أزمات بنيوية لها علاقة بمجمل الإطار السياسي في البلاد، أي تحقيق حلّ سياسي، يأخذ بالحسبان موازين القوى من جانب، ومن جانب آخر يأخذ بالحسبان ضرورة تحقيق معادلات تسمح بإعادة بناء الدولة السورية، أي بناء الجمهورية الثالثة، وهو ما يتطلب وجود أسس لتحول ديمقراطي مستقبلي، واستقرار أمني، ونمو اقتصادي، وازدهار معيشي، والعمل على إيجاد حلول مقبولة للملفات الإنسانية الأساسية، أي ملف المعتقلين واللاجئين. 

قيادة الحزب في المنفى

22-04-2023

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق