رموز عديدة لرجل واحد
رياض الترك في تاريخ سوريا المعاصر

إعداد إعلام حدْس:
ودّع السوريون مع مطلع العام الجاري، رياض الترك، أحد أبرز المناضلين السوريين، منذ سبعينيات القرن الماضي وإلى لخظة وفاته، في منفاه الباريسي، الذي عاش فيه سنواته الأخيرة، بعد خروجه من دمشق، عام 2018، إلى تركيا، ثم فرنسا، ليغادر عالمنا من هناك، عن عمر ناهز 93 عاماً، قضى حوالي سبعة عقود منها في العمل الحزبي والسياسي.
قد لا يعرف معظم السوريين من هو رياض الترك، لكن من المؤكد أنه لا يمكن كتابة تاريخ سوريا المعاصر، من دون أن يكون رياض الترك أحد شخصياته البارزة، فهو ليس فقط من أشهر المعارضين، بل ربما عدّه كثيرون أبرز شخصية معارضة لنظام البعث في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي اعتقله منذ 28 أكتوبر/ تشرين الأول 1980 ولغاية 30 مايو/ أيار 1998، حيث أطلق سراحه، بطلب من الرئيس الفرنسي آنذاك، جاك شيراك.
تلقّت شخصيات المعارضة وفاة الترك بردود أفعال مختلفة، يمكن القول إنها لم تخرج عن الحالة الانفعالية، إذ وصفه قسم منهم بالأيقونة، نظراً لنضاله الطويل، وسنوات سجنه المديدة، وقام قسم آخر بشيطنته، خصوصاً لجهة علاقته مع الإخوان المسلمين بعد الثورة السورية، بينما آثر آخرون الصمت، ربما، نظراً لحساسية إبداء موقف منه في لحظة رحيله، وبعيداً عما اعتاده الرأي العام السوري في السنوات الأخيرة من انفسام عند كل حدث حتى لو كان عادياً في بعض الأحيان، لكن الرجل بما شكّله من حالة رمزية وفعلية في العمل المعارض السوري، لن يكون بالإمكان تناول اجربته نقدياً، بشكل موضوعي ومنصف إلا من خلال أعمال تضع تجربة الترك في سياق عموم التجربة السورية العامة، والمعارضة خصوصاً، وهو ما لا تتيحه ردود الأفعال الأولى.
التعويل على المعركة التاريخية
قالت ابنته خزامى “أشعر بأن الكثير من السوريين يشعرون بالحزن عليه، لكن كما قال في كثير من الأحيان، بأن بقية الشباب السوريين والسوريات سوف يكملون الطريق أكيد”، وقد صرّح الترك في لقاء سابق في برنامج المشهد مع الإعلامية جيزيل خوري، بـأن “عدم تحقيق الثورة أهدافها بإسقاط النظام لا يعني أن المعركة التاريخية مع الاستبداد انتهت”.
عناده ومقاومته، وباعتراف معظم من تابع تجربة الترك، كانتا ربما الصفتان الأبرز في شخصيته وتجربته، بالإضافة إلى قسوة التجربة نفسها، حيث عانى من الاعتقال في عهد الرئيس أديب الشيشكلي عام 1952، وفي زمن الوحدة المصرية السورية، وفي عهد حافظ الأسد، ثم في عهد بشار الأسد، وقد نعت بريجيت كورمي سفيرة فرنسا في سوريا الترك، على منصة إكس، قائلة “احترام وتواضع أمام حياة المعارك القاسية التي عاشها مانديلا السوري رياض الترك الذي رحل عنا للتو”.
سيرة تحوّلات فكرية وسياسية
هل رحيل رياض الترك، وقبله معارضون كثر ممن عايشوا تجربة وصول البعث إلى السلطة، ثم اندلاع الثورة في سوريا، مجرد نهاية تجربة شخصية، تمسّ تجربة أفراد في العمل السياسي المعارض، بما فيها من تعقيدات، تتجاوز أحياناً الوضع الداخلي والنظام السياسي السوري، إلى الوضع الدولي، زمن الحرب الباردة، والصراع الغربي السوفيتي، أم أنها فرصة لإعادة النظر بمجمل التاريخ السياسي السوري المعاصر، وإعادة كتابته برؤية أوسع من النطاق الحزبي الخاص، أو الشخصي، على الرغم من أهميتهما؟
تجربة الترك ورفاقه الحزبيين، هي تجربة تحوّلات، تعكس تحوّلات فكرية وسياسية، على إيقاع أحداث المنطقة من جهة، وتحوّلات النظام الدولبي من جهة ثانية، إذ مرّ الترك فكرياً بمراحل عدة، فتحوّل من شيوعي خالص إلى شيوعي قومي، وهو ما يفسّر نسبياً انشقاقه عن الحزب الشيوعي السوري في عام 1973، وتأسيس ما عرف لاحقاً ب”الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي”، الذي تعرّض لحملة اعتقالات واسعة في عام 1980، وحملة اعتقال أخرى في عام 1987، وتمّ الزج بعدد كبير من كوادره القيادية في السجن، ومن ثم التحوّل تحو الديمقراطية، مع تغيير الحزب اسمه إلى “حزب الشعب الديمقراطي”، وكان الحزب أحد مؤسسي “التجمع الوطني الديمقراطي” في عام 1979، ثم المشاركة في “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي”.
العلاقة الملتبسة مع الإخوان المسلمين
اتُهم الترك في مناسبات عديدة بـأنه كان أقرب إلى الإخوان المسلمين، في صراعهم مع النظام في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، أو في التحالف معهم تحت مظلة المجلس الوطني”، الذي تشكّل في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول في اسطنبول، وضمّ عدداً من القوى، بينهم “حزب الشعب الديمقراطي”، و”الإخوان المسلمين”، وفي المقابلة ذاتها، التي أجرتها معه جيزيل خوري، قال الترك، إن التحالف مع الإخوان المسلمين، كان أساسه الرغبة في إيجاد مظلة وطنية عامة، لكن “الإخوان لم يلتزموا بتوجهات الثورة الديمقراطية الشعبية، بقدر ما عملوا على ترجيح كفّة توجههم الإسلامي”.
في نظر يساريين سوريين كثر، يمثّل الإسلاميون عموماً، والإخوان المسلمون خصوصاً، الثورة المضادة، وبالتالي فإن تحالف “ابن العم” (لقب عرف به الترك) يعدّ من وجهة نظر هذا القسم من اليسار بمنزلة خطيئة، وليس مجرد خطأ، فإن هذا الرأي، بما له من مشروعية، يبقى بحاجة إلى تدقيق قياساً غلى الاحتمالات التي كانت متاحة سورياً وإقليمياً بعد انطلاقة الثورة السورية.
ومهما كان عليه الحال في تقييم تجربة رياض الترك الحزبية والقيادية، سلباً أم إيجاباً، فإن هذه التجربة تستحق لأسباب وطنية وفكرية وسياسية وتاريخية أن تنال حقّها من البحث والدراسة، وهي مهمّة ليست بالسهلة، فأرشيف هذه التجربة موزّع بين عدد كبير من مجايليه، الذين غادر القسم الأكبر منهم، وربما، هناك مهمة تقع على عاتق من بقي منهم، أو ممن عايشوا تجربته من الجيل الأصغر سنّاً، أن يفتحوا أرشيف هذه التجربة، وإتاحة ما فيها من معلومات ومحطّات، لتكون متاحة للبحث والدراسة.
رموز عديدة لرجل واحد
رياض الترك، والرجل الصلب، والمناضل البارز، والسياسي المحنّك، وابن العم، ومانديلا سوريا، كلّها أوصاف أطلقت على الرجل، وكلّ هذه الأوصاف استحقها الرجل عبر تجربته النضالية، تجربة بدأت من مدينة حمص، وعايشت الحياة السياسية بكلّ تحوّلاتها، وبكل آلامها، بما فيها تراجيديا الكارثة السورية في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى الرحيل في المنفى لرجل كان قد استبعد خيار الخروج من البلاد طوال حياته.
من المؤكد أن مواقف الترك السياسية وخياراته، ليست محلّ إجماع في ضفة المعارضة السورية، لكن الصفات التي أطلقت عليه، هي ما تنال شبه إجماع في صفوف المعارضة.