فكر وتحليل سياسي

السياسية في خدمة الأيديولوجيا أم الشعب؟

د. أحمد الجباعي / طبيب وكاتب سوري

يستخدم مصطلح الأيديولوجيا بكثافة في التداول الثقافي والسياسي العام، ناهيك عن الميادين المتخصصة في علوم الاجتماع والفلسفة والتاريخ وغيرها، وهو مصطلح يحتمل تأويلات عدة، ويستخدم على أوجه عديدة بكيفية مقصودة أو عفوية، وبغض النظر عن الاستخدامات الفلسفية للمفهوم يمكننا التمييز بين معنيين رئيسين:

أولا- الأيديولوجيا بوصفها نسقا فكريا وسياسيا:

وهو المفهوم الأكثر استخداما في الميادين الثقافية والسياسية والاجتماعية، حيث تعرّف الأيديولوجيا بكونها: نسقاً من المعتقدات والمفاهيم، والأفكار الواقعية والمعيارية معاً لفرد أو جماعة (تيار، حزب، شعب…الخ)

يسعى هذا النسق إلى تفسير الظواهر والوقائع من خلال منظوره، ما يؤثر بعمق على الاختيارات السياسية والاجتماعية والثقافية للأفراد والجماعات.

ثانيا – الأيديولوجيا بوصفها قناعاً أو وعيا مضللا للواقع:

حسب فلاسفة الأنوار، تتحكّم مجمل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والذهنية في فهم الشخص للواقع المحيط،  فتجعله يرى الواقع تبعا لمنطقها وتلويناتها وافتراضاتها، وليس تبعاً لمنطق الواقع الموضوعي، وتلعب دور النظارة التي تلون المشهد، أو القناع الذي يمنع المرء من الوصول الى نور الحقيقة.

عرف الفكر السياسي والثقافي العربي عموماً والسوري من ضمنه، خلال أزيد من قرن، أربعة تيارات أيديولوجية كبرى، يمكن تلخيصها بما يلي:

1- التيار الليبرالي، أو ما يسميه الكاتب المغربي د. عبد الله العروي تيار “دعاة التقنية”، وهو الذي ميّز النصف الأول من القرن العشرين، وتمحور حول الإصلاح الديني، والإصلاح السياسي، والتقدّم التقني، بالاستفادة من نهضة الغرب، وفقا للسؤال المحوري لرواد النهضة حينها: لماذا تقدّم الغرب وتأخّر العرب والمسلمون؟

سقط هذا التيار بعد مرحلة الانقلابات العسكرية التي أعقبت تشكل الدول الحديثة ونيل الاستقلال.

2- التيار الاشتراكي والشيوعي، المتمحور حول الأيديولوجيا الماركسية، كما فهمتها وسوقتها أدبيات المرحلة السوفياتية، والى درجة أقل الأدبيات الصينية الماوية.

3- التيار القومي، كما مثلته التجارب القومية، مثل تجربة القوميين العرب والبعث والناصرية وغيرها، وكان هذا التيار مشغولاً بمواجهة الاستعمار والصهيونية في “صراع وجود”، وأساس النجاح في هذا الصراع هو قيام وحدة عربية شاملة، تقطع الطريق على الهيمنة الاستعمارية وعملائها في الداخل، وتنهي المشروع الصهيوني بتحرير فلسطين “من البحر الى النهر”.

4- التيار الإسلاموي أو تيار الإسلام السياسي، الذي ازدهر بنسخته الشيعية بعد الثورة الإيرانية عام 1979،  وبنسخه السنية: الاخوانية والسلفية والجهادية، وتعزز أكثر بعد إخفاقات التيار القومي، ومن ثم سقوط الاتحاد السوفييتي بشكل رسمي عام 1991.

دشّن مطلع القرن الحادي والعشرين أفول التيارين القومي والاشتراكي، وازدهار تيار الإسلام السياسي، الذي ما لبث أن يبدأ عده التنازلي بعد أحداث 11 سبتمبر2001.

منذ بداية العقد الثاني للقرن الواحد والعشرين، انطلقت موجات من الاحتجاج الشعبي، فيما عرف بالربيع العربي وعبر عن أزمة النظم السياسية التسلطية، وأزمة الفكر السياسي الشمولي السائد.

انكسرت الموجة الثورية بفعل عوامل عديدة، من أبرزها لعبت التأخر الثقافي والسياسي، وفشل بناء الدولة الحديثة،  والتدخلات الخارجية، ومحاولة تيارات الإسلام السياسي السيطرة عليها، هذه العوامل أسهمت في انحسار الموجة الثورية، وانكسرت معها عناصر قوة الإسلام السياسي، الذي أسهم بقوة في فشل مشروع التحديث والديمقراطية، بوصفه القضية المركزية للشعوب العربية.

لقد انهارت أو تكاد معظم الأبنية الأيديولوجية الموروثة، ولم تتبلور بعد معالم فهم مناسب لحاجات العصر.

السياسة بمعناها المعاصر تعني المشاركة في إدارة الموارد البشرية والاقتصادية للدولة، وتوجيهها بما يخدم مصالح الدولة الوطنية والمواطنين فيها.

لكن تجربتنا السياسية السابقة أورثتنا مفهوما عجيبا للسياسة، حيث تصبح السياسة وسيلة لخدمة الأيديولوجيا، فهي وسيلة ليس لخدمة المواطنين في أمنهم ولقمة عيشهم وتحسين مستواهم المعيشي ورفاههم، بل هي من أجل الوقوف “ضد الامبريالية والصهيونية”، وضد “الاستكبار العالمي”، وشياطينه الكبرى والصغرى، ومن أجل “الذود عن الإسلام” المستهدف من جبهة “حلف الإلحاد والعلمانية والتحالف النصراني اليهودي”، ومن أجل “المقاومة والممانعة”، وفي هذه الرؤية ينقلب هدف السياسة الأصلي من خدمة الشعب الى خدمة الأيديولوجيا، ويصبح الناس مجرد وقود للمعارك الملحمية الكبرى.

وتصبح السياسة وسيلة للإفقار والاخضاع في بناء أيديولوجي شمولي، لا يقيم وزناً لواقع وموازين القوى، ولا يأبه لمعاناة الشعب الذي يدفع أفدح الأثمان، ومطلوب منه فقط أن يصفق للساسة من المغامرين والمتاجرين “المنتصرين دوما”، رغم أهول الهزائم وخراب البصرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق