أخبار سورية

الحرب وتداعياتها على قطاع التعليم ومؤسساته في مناطق النظام

تراجع جودته وخروج شهاداته من التصنيفات العالمية



“حدس”- مجد إبراهيم:

قضية فساد جديدة تسجل على قائمة فضائح حكومة النظام السوري، تكشف مرة أخرى عن حجم الفساد المستشري في مؤسسات الدولة والمجتمع، بطلها هذه المرة وزارة التربية السورية، حيث كشفت في بيان لها عن واحدة من أخطر قضايا الفساد التعليمي في تاريخها الحديث، بعد ضبط شبكة من الموظفين المتورطين في تزوير نتائج الشهادة الثانوية بشقيها الأدبي والعلمي.

وقال وزير التربية في حكومة النظام عامر مارديني إن الوزارة نجحت في كشف عملية تلاعب واسعة النطاق، طالت نتائج 70 طالباً وطالبة في دورتي الشهادة الثانوية الأولى والثانية.

وأسفرت التحقيقات عن توقيف أربعة موظفين، من بينهم موظفة رئيسية اعترفت بتلقيها رُشى بقيمة 150 مليون ليرة سورية، مقابل تعديل الدرجات، وبناءً على ذلك قرّرت الوزارة سحب 70 شهادة، ثبت التلاعب بدرجاتها.

فضيحة جديدة، تعيد تسليط الضوء على الآثار الكارثية لمجمل الأوضاع الوطنية والسياسية على واقع التعليم ومؤسساته في البلاد، وفي هذا التقرير، نخاول الإحاطة بعموم الواقع التعليمي، والمؤسسات التربوية، وما يتّصل بهما من مشكلات وتحدّيات، والكشف عن المستوى المتدني للقطاع التعليمي، بشقيه المدرسي والجامعي.

الأوضاع الاقتصادية وتأثيرها على أركان العملية التعليمية

بشكل متسارع وتبعاً للانخفاض المتزايد في سعر الليرة السورية مقابل العملات الرئيسية، والتضخم المتلاحق، وقلّة مصادر الدخل، وضعف القوة الشرائية، مع انعدام مقومات الحياة الأساسية في بعض المناطق، مثل الكهرباء والتدفئة وشبكة الأنترنت..إلخ.  كان لتأثير حالة الاقتصاد المتراجع في البلاد أثر مباشر على التلاميذ، وتسرّبهم من التعليم، وعمالتهم المبكرة، وأيضاً تأثير هذا الواقع الاقتصادي على الكادر التعليمي، ونرصد هنا أبرز صور الواقع التعليمي في مناطق سيطرة النظام السوري:

1- التسرّب من التعليم والعمالة المبكرة

اتّسعت شريحة السوريين العاجزين عن التكفّل بأعباء تعليم أبنائهم، تزامناً مع تفاقم الوضع الاقتصادي، وهذه الشريحة لا تستطيع تأمين المستلزمات المدرسية لأبنائها وبناتها من قرطاسية وحقائب ومستلزمات أخرى، بل وتجد أنه من الأفضل أن تدفع بأبنائها إلى العمل، للمساعدة في تأمين احتياجات الأسرة.

ومشهد خروج الأبناء من التعليم، وإرسالهم إلى سوق العمل في سن مبكرة، بهدف مساعدة عوائلهم في تحمّل الأعباء المعيشية، أصبح أمراً شائعاً على نطاق واسع، ما ينذر مع الوقت بارتفاع نسبة الأمية.

وتشير تقارير المنظمات التابعة للأمم المتحدة عام 2023 إلى أن 18% من الأطفال السوريين غير ملتحقين بالمدارس، وهنالك أكثر من مليوني طفل سوري تتراوح أعمارهم بين 6 و17 عاما لم يلتحقوا بالمدرسة.

2- تدنّي رواتب الكادر التدريسي

يفتقر المعلّمون في معظم مناطق سيطرة النظام إلى الموارد الماديّة والماليّة التي يحتاجونها للتدريس بفعاليّة، بل إنهم وعلى ضوء الأجور الحالية التي يتقاضونها، فإنهم يعانون من صعوبة في تلبية احتياجاتهم الأساسيّة لهم ولعائلاتهم، ناهيك عن أجور التنقل التي تشكل تحديًا إضافيًا، خصوصاً للمعلّمين الذين يحتاجون إلى التنقل عبر مسافات طويلة للوصول إلى مدارسهم. مع فقدان الإحساس  بالأمان الوظيفي، كل هذه الأوضاع تركت آثارها السلبية عميقاً على مجمل عمليّة التعليم والتعلّم، مادفع العديد من الكوادر التعليمية إلى ترك النعليم، والبحث عن وظائف أخرى، أكثر جدوى مالياً، أو أتباع سبل أخرى في قطاع التعليم ذاته.    

3- الدروس الخصوصية

أدّى تراجع مستوى التعليم في القطاع الرسمي، وارتفاع تكاليفه في القطاع الخاص، إلى جنوح شرائح واسعة من الأهالي نحو الدروس الخصوصية، كبديل عملي قادر على تحقيق جودة في النتائج التعليمية لأبنائهم، وفرصة للمعلمين لتحقيق الأرباح، بعيداً عن المدارس العامة، حيث الأجور المتدنية.   

وانتشرت بشكل واسع الدروس الخصوصية في المنازل والمقاهي، وعلى الرغم من محاولة وزارة التربية منع انتشار هذه الظاهرة، عبر إصدار تعميمات تمنع الدروس الخصوصية في المنازل، إلا أنها فشلت في ذلك.

وتتراوح أسعار الدروس الخصوصية حسب تخصّصات الأساذتذة وشهرتهم، حيث تصل تكلفة طالب المرحلة الثانوية مع مدرّس غير مختص الى ما بين ثلاثة أو أربعة ملايين ليرة سورية لكامل السنة الدراسية (حوالي 250 دولار)،  أما إذا كان المدرّس مختصاً وله شهرة، فتصل الكلفة لكل المواد بين سبعة إلى ثمانية ملايين ليرة، وقد تصل في بعض المناطق إلى عشرة ملايين ليرة سورية، في وقت يبلغ فيه متوسط رواتب المدرسين، حوالي عشرين دولاراً.

ولم تتوقف الظاهرة عند طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية، بل وصلت إلى طلاب المرحلة الابتدائية، وما أسهم في تعميقها وانتشارها، كثافة أعداد التلاميذ في المدارس الابتدائية عن الحدود الطبيعية، وما يرافق ذلك من ضعف في قدرة التلاميذ  في الفهم والاستيعاب، والنتائج غير المرضية في نهاية الموسم الدراسي ، ماجعل الدروس الخصوصية خياراً اضطرارياً  للعديد من الأهالي.

4- التوجّه نحو المدارس والجامعات الخاصّة

مع تدني مستوى العملية التعليمية في المدارس الرسمية، اتجه الكثير من الأهالي إلى تسجيل أبنائهم في المدارس الخاصّة، وذلك على الرغم من ارتفاع أقساطها السنوية، لقناعتهم بأنها المكان الأفضل لتزويد أبنائهم بالعلوم والمهارات الأساسية، التي تضمن لهم مستقبلاً أفضل، بعيداً عن هموم ومعاناة التعليم الرسمي.

وتزايدت في السنوات الماضية أعداد المدارس الخاصّة في سوريا، إذ لم يقتصر انتشارها على المدن الرئيسية، بل امتدت إلى ضواحي المدن، في ظل تدهور التعليم الحكومي وسوء أوضاع مدارسه.

وكان دخول القطاع الخاص ميدان التعليم نتيجة توجهات حكومية سابقة، ماقبل عام 2011،  بغرض تخفيف الإنفاق الحكومي على التعليم، من 12% إلى 7% من ميزانية الدولة، بين عامي 1970  و2010.

وامتدت خصخصة التعليم فيما بعد إلى المرحلة الثانوية وما دونها، وصولاً إلى رياض الأطفال، لتتحول رسالة التعليم معها إلى مقياس ومؤشر للأوضاع الطبقية في البلاد،  بناءً على أوضاع أهالي التلاميذ الاقتصادية، وارتيادهم المدرسة والمعهد، كلٌ حسب تصنيفه الطبقي.  

وتشير تقارير صحفية إلى أن الجامعات الخاصة تمثّل استثماراً للطبقات الغنية الجديدة، اتجه للعمل فيها أستذة من الكليّات الرسمية، نتيجة فروق الرواتب. أولها كانت “جامعة القلمون الخاصّة” في العام 2003 ، تلتها حتى اﻵن 24 جامعة خاصّة. وتعود ملكية هذه الجامعات إلى مسؤولين كبار سابقين في الحكومة، ورجال أعمال، وبطبيعة الحال، هناك شراكات قائمة مع ضباط كبار في المؤسسة الأمنية.

5- ضعف البنى التحتية وأثرها على الواقع التعليمي

يمثل واقع حال البنى التحتية للمؤسسات التعليمية، أحد أبرز المشكلات التي يعاني منها التلاميذ في مدن وبلدات خاضعة لسيطرة النظام، بعد ما أصابها من أضرار خلال سنوات الحرب، وغياب عمليات الصيانة الضرورية، وزاد الزلزال الأخير من فداحة هذا الواقع، لتعرّض عدد من المدارس لأضرار جسيمة.

ووفق تقديرات منظمات دولية، لم تعد لدى المدارس القدرة اللازمة على استيعاب الطلاب، كما أنها تفتقر إلى الحدّ الأدنى من شروط العملية التعليمية، وذلك بسبب اكتظاظ الطلاب داخل الصفوف، ونقص الأثاث المدرسي، واللوازم المدرسية، وندرة توفر المواد اللازمة للتدفئة والإنارة الجيدة، بالإضافة إلى تلف الحمامات ومرافق الصرف الصحي.

6- قلّة الكوادر التعليمية المؤهلة

تعد قلّة الكوادر التعليمية، وضعف الكفاءات، مسألتين حاسمتين، تقفان عائقاً، في وجه تقدّم العملية التعليمية في سوريا، فهجرة المعلمين، سواء أكان من مدينة إلى أخرى، أو مغادرة  سوريا بشكل نهائي، تركت بصمتها الخاصّة على مجال التعليم، فبات توافر الأساتذة والمعلمين الكفء في المدارس أمراً نادراً، خصوصاً في تلك المدارس المتواجدة في مناطق خضع أهلها للنزوح،  وأثرت عليها الحرب تأثيرا كبيراً،  ما أدى إلى تدني مستوى التعليم فيها بشكل غير مسبوق.  

فالحرب وتداعياتها، أفقدت السوريين خيرة كفاءاتهم التعليمية، من المدرسين وأساتذة الجامعات، وتشير آخر الأرقام إلى فقدان سلك التعليم حوالي 200 ألف موظفاً، فقد هرب قسم كبير منهم طلباً للأمان،  واعتقل آخرون، أو قُتلوا في الحرب،  أو سحبوا إلى الخدمة في الجيش، وقد جرى تعويض هذا العدد الكبير من الكفاءات التعليمية، بالاعتماد على معلّمين لم يتلقّوا إعدادًا وتدريبًا كافيين.

7- تدنّي قيمة العلم

فيما مضى، كان السوريون يتسابقون على الدراسة، وتأمين مستلزماتها، ولو على حساب بعض الحاجات الضرورية، ويتفاخرون بما يحققه أبناؤهم من شهادات علمية وتحصيل معرفي، ربما لأن طريق التعليم والحصول على شهادة جامعية كان الخيار الأفضل لنيل احترام المجتمع، وضمان مستقبل أفضل مادياً، أما اليوم، فقد تغيّر المشهد كلّياً، مع تراجع قيمة التعليم بشكل عام، كنتيجة لتراجع منظومة القيم العامة، واهتمام مجمل السوريين بتأمين كفاف عيشهم، مع ارتفاع نسبة عدد من يعيشون تحت خطّ الفقر إلى 90% من المواطنين، بحسب تقديرات مؤسسات دولية.

كما أن قيمة التعليم، التي لا يمكن فصلها تاريخياً في مجتمعنا السوري عن كونها جزءاً من عملية الارتقاء في المصعد الاجتماعي، وتحصيل أوضاع أفضل، فإن تراجع المردود المالي للأعمال التي تحتاج إلى تحصيل علمي طويل، وجهد كبير، أصبح يعني البقاء في منطقة الفقر والكفاف، إذا ما قورنت أوضاع المتعلمين، العاملين في القطاعين العام والخاص، بأوضاع فئة الفاسدين وأثرياء الحرب، التي تشكّل اليوم فئة صاعدة في المجتمع السوري، تتمتع بالمكانة الاجتماعية والنفوذ.

8- تراجع الثقة بالشهادات السورية

تراجعت جودة التعليم في سوريا خلال السنوات الماضية بشكل حادّ، وذلك جراء ما وصفته مؤسسات عديدة، بأنه نتيجة “الإهمال الكبير والتعاطي اللامسؤول من قبل النظام مع ملفّ التعليم”.

فعلى وقع التقارير المتلاحقة التي تشير إلى حالات الفساد والفضائح الأخلاقية في مدارس وجامعات النظام، لم تعد الشهادة العلمية الصادرة عنها امتيازاً، يدل على الكفاءة والاجتهاد، ما أدى إلى تراجع الثقة العالمية بالشهادات العلمية الصادرة عن حكومة النظام السوري،  (ثانوي – جامعي )، وتراجع تصنيف الجامعات فيها، حتى وصل الأمر إلى عدم الإعتراف بها في أحيان كثيرة. ً 

هذه الوقائع أدت  إلى خروج سوريا من معظم سلالم تقييم جودة التعليم في العالم، ومنها “مؤشر دافوس للتصنيف العالمي لجودة التعليم” في العام 2022. حيث قالت وزارة التربية السورية في ردّها على هذا الخروج، إن منتدى “دافوس” يستند في تصنيفه إلى اثني عشر معياراً للدول التي أجريت فيها الدراسة، في حين أنّ سوريا لم تدعَ للمشاركة “لأسباب سياسية”.  

































اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق