سوريا من الاستعمار الفرنسي إلى الاحتلالات
د. رفعت عامر *
في واقعة محاكمة الزعيم الوطني إبراهيم هنانو عام 1922م، بمحكمة الجنايات العسكرية الفرنسية، طلب النائب العام الفرنسي إلقاء القبض على هنانو وإعدامه بتهمة الإخلال بالأمن والقيام بأعمال إجرامية.
عقدت المحكمة أولى جلساتها، وتبرع حينها المحامي فتح الله الصقال للدفاع عن هنانو، واستطاع إثبات أن المحكمة باطلة، باعتبار هنانو خصماً سياسياً للفرنسيين وليس مجرماً. وكان دليله على ذلك هو قبول الفرنسيين التفاوض معه مرتين وتوقعيهم معه اتفاق هدنة. وقرر القاضي الفرنسي إطلاق سراحه معتبراً قضيته سياسية وليست جنائية.
وبعد الانتهاء من المحاكمة وإطلاق سراحه، طلب المحامي الصقال من هنانو أن يدخل إلى رئيس المحكمة لشكره على حكم البراءة، ولكن رئيس المحكمة رفض استقبال هنانو في مكتبه قائلا “أنا لا أصافح رجلاً تلوثت يداه بدماء الفرنسيين. عند الحكم كنت على منصة القضاء، أما الآن فأنا مواطن فرنسي”.
كيف نفهم هذا الموقف الذي حدث منذ أكثر من مائة عام لقاضٍ أحب وطنه ودافع عنه وبرّرَ سلوك دولته الاستعماري، ومع ذلك كان عادلا في حكمه أمام متمرد من رعايا الدولة المُستعمرة؟ بينما يمارس حاكم من جلدتنا، والمفترض فيه أن يكون خادماً لشعبه، كل أنواع القتل والتعذيب والسجن لمئات الألوف من السوريين، ويرتكب فظائع بحقهم تصل في القانون الدولي إلى مرتبة جرائم حرب ضد الإنسانية، بذريعة الدفاع عن مؤسسات الدولة والوطن.
من المفهوم لنا أن يُمارس المستعمر أحكاماً مثل الإعدام بحق مواطن من الدولة المستعمَرة يعتقد بأنه يشكل خطرا عليه. ومع ذلك، لم يستطع النائب العام الفرنسي فرض إرادته على المحقق في إعدام هنانو مع أن المحقق كان مدافعا شرسا عن سياسة دولته الاستعمارية، ويعتبر احتلال سوريا أمراً طبيعياً ومبرراً. ولكنه لم يقبل بذلك الفرض لأنه يحترم القانون ويحكم بمقتضى مؤسسة قضاء فرنسية مستقلة عن السلطة التنفيذية.
سوريا التي تخلصت من الاستعمار الفرنسي وبدأت بتطبيق بعض النظم الحديثة المأخوذة منه مثل البرلمان والحياة الحزبية السياسية ومفاهيم الديمقراطية والمواطنة واستقلال السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية ،ما لبث انقلاب الأسد الأب أن حول الأمر فيها إلى قطيعة نهائية مع هذا المسار، وحول البلد إلى مرتع للفساد والإفساد تُباع وتُشترى فيه ذمم الناس وتهدر الكرامات تحت ضغط السلطة أو المال، من دون أي حرج وعلى المكشوف في قصور العدل التي تبرئ المجرم وتدين البريء، بوصاية من أجهزة الأمن والقيادات الفاسدة تحت ذرائع مختلفة، تكفي منها تهمة إضعاف الشعور القومي.
لماذا أنتج الغرب قاضياً كالذي حكم على هنانو بالبراءة ولم تنتج مؤسسات القضاء السورية، على مدار أكثر من خمسين عاماً، قاضياً يبرئ ولو مواطناً سوريا واحداً حكم عليه بالسجن بسبب وجهة نظر أو موقف سياسي في شؤون دولته ومجتمعه.
الواقع أن الاستعمار الفرنسي هو نتاج منظومة القيم الحضارية للثورة البرجوازية التي قامت على حقوق الإنسان والمواطنة وفصل شؤون الدين عن الدولة في مجتمع متجاوز للتشكيلات ما قبل القومية، بينما التجربة الديمقراطية الوليدة لسوريا بعد الاستعمار لم تُمنح فرصة التشكل والبلوغ. ليس فقط بحكم التشكيلات ما قبل الوطنية المفككة للمجتمع، وإنما لسبب رئيسي متعلق بالاستبداد الشرقي المحدث المتمثل بحكم النظام البعثي الأسدي الذي خطف هذه التجربة الوليدة، وقتل جنين الدولة المتشكل بعد الاستعمار الفرنسي وأعدمها بانقلابه العسكري وجذر، فيما بعد، الاستبداد في بنية المجتمع، معيداً سوريا إلى مرحلة ما قبل الاستعمار الفرنسي، وفاتحاً حدودها لشتى أنواع الاحتلالات.
*أكاديمي وباحث اقتصادي