رأي

تفكيك العقل الطائفي في سوريا.. العصبيات في مواجهة غياب السلطة الانتقالية

مالك الحافظ

لا يمكن فهم ظاهرة العصبيات فوق الوطنية خارج إطار البنية الطائفية التي أعادت إنتاج ذاتها في سوريا ما بعد انهيار نظام بشار الأسد، خصوصاً في ظل السلطة الانتقالية الحالية ذات التكوين السلفي الجهادي. لقد شكّلت حادثة صحنايا الأخيرة مظهراً دالاً على اختلال المعايير الناظمة للعلاقة بين الفرد والدولة، إذ أظهرت غلبة الارتباطات الأولية على منطق الانتماء الوطني العام.

في الحالة السورية، لم يعد العقل الطائفي مجرّد تمظهر ثقافي أو بقايا إرث اجتماعي، بل بات منظومة ذهنية تشتغل وفق ما وصفه أمين معلوف بـ”الهويات القاتلة”؛ أي حين تُختزل هوية الفرد في بُعدها المذهبي أو الإثني، وتُشحَن بمعاني الاستثناء والتهديد والاصطفاف. وهو عقل يعمل على إنتاج جماعات مغلقة، يبرّر داخلياً عنفها، ويمنحها شعوراً زائفاً بالأمان، لكنه يعمّق في الواقع من حالة الانقسام العام، ويحوّل الهويات الفرعية إلى أدوات تبرير للصراع، لا أدوات إثراء للتعدد.

المشكلة هنا لا تتعلق فقط بانبعاث العصبيات، بل أيضاً بتآكل منطق الدولة كحامل جماعي مشترك. فالدولة، كما يراها ماكس فيبر، هي التي تحتكر العنف المشروع وتُنظّم المجال العام على أساس المساواة القانونية. لكن في سوريا، ومع تحوّل السلطة إلى تحالفات مناطقية وفصائلية، غاب هذا الاحتكار لصالح ما يمكن تسميته بـ”توزيع الحصص في استخدام العنف”، ما يجعل فكرة السيادة نفسها مجرّد مفردة خاوية من مضمونها القانوني.

العقل الطائفي ليس عقل الأفراد بالضرورة، بل هو عقل البُنى والممارسات. وهو يتغذى من ثلاثة مصادر أساسية، غياب التعليم المدني، وتحوّل الدين إلى هوية سياسية، وفقدان الثقة بأي إطار وطني جامع. حين تغيب العدالة الانتقالية، وتُختزل المواطنة في الولاء لا في الحقوق، تُفتح الأبواب أمام صعود سرديات الانتماء الضيق. وهذا ما يفسر لماذا كان التواصل الأمني والاجتماعي في حادثة صحنايا – كما في غيرها – يتم عبر مشيخات ووجهاء، لا عبر مؤسسات الدولة.

وهذا تماماً ما أشار إليه عبد الله العروي حين اعتبر أن “الطائفة ليست بديلاً عن الدولة، بل هي إعلان عن فشلها”، فالاعتماد على الروابط الأفقية (العشيرة، الطائفة، الجماعة) لا يكون إلا حين تُقصّر الروابط العمودية (الدولة، القانون، المؤسسات).

في النظم المجتمعية التي عانت من الحروب الأهلية أو الأزمات الوطنية العميقة، تصبح الطائفية أكثر من مجرد انتماء ديني أو مذهبي؛ تتحوّل إلى بنية ذهنية متكاملة، تُنتج نمطاً من التفكير ينطلق من الانغلاق ويتكرّس في الوعي الجماعي بوصفه هوية مهدَّدة تستوجب الدفاع والتماهي. ما يسمى بـ “العقل الطائفي” لا يُقاس فقط بدرجة التديّن أو الارتباط بالمذهب، بل بمدى استعداد الأفراد والجماعات لتسييس الانتماء المذهبي وتحويله إلى أداة صراع سياسي واحتكار للسلطة والتمثيل.

تفكيك هذا العقل ليس مهمة وعظية أو أخلاقية فحسب، بل هو مشروع فكري – سياسي – قانوني، يتطلب إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الفرد والجماعة.

القضية لا تكمن في الإيمان بالمذهب، بل في تحويله إلى هوية دفاعية تستبطن العداء المسبق للآخر. يتطلب ذلك بناء “مواطنة فوق الطوائف” لا “مواطنة بلا طوائف”، لأن الهوية الجمعية لا تُمحى، لكنها تُدرج ضمن إطار قانوني ومؤسساتي يضمن المساواة.

أما سطوة العصبيات فوق الوطنية، فتبرز حين تفشل الدولة في تأمين الأمان السياسي والاقتصادي، فتعود الجماعات إلى هوياتها الأولية كملاذ وحيد. العصبية، وفق ابن خلدون، تظهر حين يتفكك النظام ويغيب المشروع الجامع، فتصبح العائلة والعشيرة والطائفة هي الضمانة والبوصلة.

المعادلة بسيطة ومعقدة في آن، حيث لا يمكن تفكيك العقل الطائفي من دون تحرير الدولة من الهيمنة الفئوية، ولا يمكن بناء دولة فوق الطوائف إذا لم تُنتج سردية وطنية بديلة، عادلة، شاملة، وقادرة على مخاطبة المخاوف والهواجس، لا إنكارها.

حين نحاول تفكيك البنية الذهنية للعقل الطائفي، فإننا لا نغوص في تحليل ظاهرة سطحية أو نزوع هوياتي عابر، بل نواجه أحد أعقد تجليات الانقسام الثقافي والاجتماعي الذي يصيب البنى السياسية في حالات الاضطراب أو الفراغ السيادي.

وهنا، لا بد من استدعاء ما قدّمه إرنست غيلنر في أطروحته حول “المجتمع والمجتمع المتعلم”، إذ يرى أن المجتمعات التقليدية التي تفتقر إلى مؤسسات مركزية قوية تميل إلى الانكفاء نحو الهويات الصلبة، لا باعتبارها خياراً ثقافياً، بل باعتبارها آلية بقاء واستمرارية. فحين تعجز الدولة عن توفير الأمن والعدالة، تصبح العصبية “مؤسسة غير رسمية” تؤدي دور الحماية والتمثيل، ما يمنحها شرعية الأمر الواقع.

إنّ البنية العصبوية لا تنهار بمجرد صدور إعلان دستوري أو دستور جديد دائم أو إطلاق شعارات الوحدة الوطنية. تفكيكها يتطلب تغييرات في البنية العميقة للوعي الاجتماعي، وفي آليات التنشئة، وفي وسائل الإعلام، وفي وظيفة المؤسسات التعليمية، بل وفي الفضاء الرمزي ذاته، فهل كل ذلك تدركه السلطة الانتقالية؟

إن الرهان الأساسي في مواجهة العقل الطائفي ليس في محو الفروقات، بل في تحويل هذه الفروقات إلى مصدر إثراء، عبر نقلها من كونها مشاريع انقسام إلى مشاريع مشاركة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق