أخبار سورية

عن الطبقة والنخبة والدولة الحديثة في سوريا

حسام ميرو

لم تشهد سوريا في تاريخها المعاصر نقاشاً حارًاً حول مفهوم الدولة، كالذي شهدته خلال الأشهر التي تلت سقوط نظام بشار الأسد، ليس لأن النقاش حول الدولة كان غائباً بعد عام 2011، لكنه كان محصوراً في دوائر المعارضة، لكنه اليوم يتحوّل إلى نقاش مفتوح حول الدولة التي يريدها السوريون.

في التداول اليومي العامّي، بات مألوفاً الحديث عن سوريا الأموية، أو الدينية، أو الإسلامية، أو خليطاً من كل هذه المفردات، وما تنطوي عليه من دلالات، لا ينبغي التعامل معها بوصفها مجرد نوستالوجيا (حنين إلى الماضي)، وإنما أيضاً كتعبير عن هويّات متخيّلة من جهة، وقصور في الواقع والوعي من جهة ثانية.

في النظام السياسي بعد مجيء حافظ الأسد، حدثت عملية ضبط للصراع الطبقي في البلاد، عبر تسويات بين الحاكم والطبقة التجارية، وأخرى مع فئتي الفلاحين والعمال والمجتمعات الأهلية، الهدف منها تقديم ترضيات، تصبّ في مصلحة استقرار النظام السياسي والاجتماعي، وقد نجح هذا السوك عملياً إلى حدّ بعيد في إطار معادلات إقليمية ودولية، ضمن توازنات القوى في الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وربما الأصح بين المعسكرين الغربي والشرقي.

معالم الدولة والمجتمع في سوريا اليوم يمكن تكثيفها (من وجهة نظرنا ) بالنقاط التالية:
1- انفراط نواة الدولة العسكرية والأمنية للنظام القديم.

2- تقسيم غير معلن للجغرافيا السورية، ومعها تقسيم وتشظي لدورة الإنتاج.

3- اضمحلال الاقتصاد الوطني.

4- تهالك مؤسسات الدولة.

5- صراع على هوية الدولة.

6- ضعف النخب والقوى السياسية الديمقراطية والليبرالية.

السلطة الجديدة التي تحاول أن يبنيها أحمد الشرع ومعه “هيئة تحرير الشام”، ومن ورائها الدولة، يمكن تكثيف ملامحها بالآتي:

1- سلطة بمرجعية دينية إسلامية، يطغى عليها الطابع السلفي.

2- جيش عقائدي، نواته “هيئة تحرير الشام” والفصائل الموالية لها.

3- بناء مرجعية تشرف على عمل المؤسسات، من خلال مجلس الإفتاء الذي عيّنه أحمد الشرع، في نسخة أقرب إلى تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

4- عصبية قائمة على الولاء للحاكم/ الأمير/ الخليفة/ السلطان.

5- مركزة القرار في يد الحاكم.

إن إعادة استنتساخ النظام السلطاني من جديد على يد الشرع، تصطدم بحقيقة أساسية، وهي أن نظام بشار الأسد، لم يكن ليواجه انتفاضة شعبية، جرى اختراقها من قبل القوى الفاعلة في الإقليم والعالم، كما جرى اختراق نظامه من قبل إيران وروسيا، لولا أن نظام الدولة السلطانية الذي سار فيه، قد استنفد مع الوقت الكثير من ممكنات قدرته على العمل والبقاء، في ضوء تحوّلات عولمية وعالمية.

الدولة الحديثة في سوريا، أو ضرورتها، ليست مجرد رغبة إرادوية لذات نخبوية ثقافية حداثية، أي أنها ليست دعوة ثقافوية، فبقاء سوريا ككيان ودولة وإنتاج ومجتمع، مرهون بقدرة ذهاب السوريين إلى الدولة الحديثة، ليس عبر قفزة في الفراغ، هي بالأساس غير ممكنة، وإنما من خلال إعادة إنتاج وعي مطابق لحاجتنا للدولة الحديثة، عند النخب بشكل خاص.

الدولة الحديثة كنموذج للدول المتقدّمة اليوم، أو السائرة في طريق التقدّم، له أساس موضوعي طبقي، يتمثّل بصعود الطبقة الرأسمالية الصناعية على حساب الطبقة الإقطاعية، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، لكن هذا العامل الموضوعي، حدثت في بعض تجارب العالم الناجحة، عملية معاوضة، بحيث لعبت النخب دوراً خاصّاً، أسهمت في إعادة تركيب المعادلة.

في المعادلة التاريخية كنّا أمام: طبقة رأسمالية (صناعة) + منظومة قيم حديثة (نخب) = الدولة الحديثة.

في دول مثل ماليزيا وسنغافورة وأندونيسيا، حيث المعادلة: منظومة قيم حديثة (نخب) + دولة= صناعة.

تطابق النموذج الثاني مع الوقت إلى حدّ بعيد مع النموذج الأول، أي:  نخب+ صناعة= دولة حديثة (استعادة المعادلة الأولى).

هاتان المعالتان ناشفتان، أي أن في ثنايا كل معادلة تفاصيل عديدة، وأدوار متبادلة، لكن لتقريب وجهة نظرنا حول إمكانية إجراء تحوّل سوريا إلى دولة حديثة، نحن بحاجة للنظر جدياً في إمكانية معاوضة (استبدال) دور بآخر.

مرّ مفوم الدولة الحديثة-فكرياً- بعدد من المحطات الرئيسية، ابتداءً من توماس هوبز في القرن السادس عشر، وصولاً إلى هيجل وماركس في القرن التاسع عشر، مروراً بجون لوك في القرن السابع عشر، وجان جاك روسو في القرن الثامن عشر.

وعلى الرغم من وجود تباينات في رؤية كلّ منهم للدولة الحديثة، إلا أن كلّ الرؤى التي قدّموها، كانت مبنيّة على مفاهيم حديثة: العقد الاجتماعي، حرية الفرد، حرية الجماعة، السلطة/ المجتمع، الصراع الطبقي، المجتمع المدني.

وبموازاة النظريات الفلسلفية للدولة، كانت هناك نظريات علم الاجتماع، التي ركّزت على سمات الدولة الحديثة ووظيفتها: العقلانية، الإدارة، البيروقراطية، المؤسسات، الخدمات، المواطنة، الحياد النسبي تجاه الصراع الطبقي، والحياد تجاه العقائد والأديان.

إن محاولة السلطة الحالية في سوريا في استعادة واستنتساخ الدولة السلطانية، في ضوء ما ذكرناه من حقائق يتّسم بها واقع الدولة والمجتمع في سوريا، هي محاولة فاشلة مسبقاً، فسوريا اليوم أمام اتجاهين حدّيين، الأول من شأنه أن يفضي إلى استمرار سوريا كدولة فاشلة، دولة ما دون الدولة، تزداد بؤساً مع فقدان مصادر الريع من جهة، وفقدان إمكانية تدوير عجلة الاقتصاد من جهة ثانية، وعدم قدرة السلطة الحالية على بناء شرعية داخلية وخارجية، وعدم قدرتها على احتكار السلاح، وبناء مؤسسات إدارة، والاتجاه الثاني، يتمثل بمحاولة بناء نخبة، تأخذ على عاتقها العمل على مشروع سياسي اقتصادي واجتماعي، يرتكز على مفهوم الدولة الحديثة.

الاتجاه الثاني، يحمل بالتأكيد طابعاً رغبوياً ذاتياً، لكن هذا الطابع الرغبوي الذاتي كان على الدوام أحد محركات العمل السياسي التاريخي، بحيث يمكن معاوضة بعض العوامل الموضوعية بأخرى ذاتية، في إطار مصالح شخصيات وقوى ورجال أعمال (نظراً لغياب الطبقة)، قد يكون كلّ منها في الماضي القريب على ضفة متناقضة مع الآخر، لكن مصالحها تتناقض اليوم بالضرورة مع استنساخ الدولة السلطانية. هذا الاتجاه الثاني، يحتاج موضوعياً إلى توافر جملة شروط، أولها الاتفاق على ضرورة بناء الدولة الحديثة، في إطار إعادة بناء النخب لذاتها، وتحوّل رجال الأعمال من مجرد مالكي ثروات إلى أصحاب مشروع سياسي ليبرالي ديمقراطي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق