عن الطائفية والقروسطية وكارثية استمرار “الأمير” أحمد الشرع
حسام ميرو
ما الحدود/ الخطوط الفاصلة بين عالم القرون الوسطى وبين الحداثة؟. سؤال ملحّ في واقع سوري تتصاعد فيه حدّة الخطاب الطائفي، ويتصدّر للمرة الأولى الفضاء العام في تاريخ الدولة السورية منذ تأسيسها في عام 1920.
حتى في أحلك الأوقات وأكثرها مأساوية ما بعد 2011، لم يكن الخطاب الطائفي خطاباً عامّاً، لكن سقوط نظام بشار الأسد، ووصول “هيئة تحرير الشام” إلى سدّة الحكم في دمشق، ذات الخلفية السلفية الجهادية، وإظهار تمسّكها بإدارة السلطة من خلال اللون الواحد، ووجود ما يشبه الحملة الإعلامية الممنهجة لإظهار أن الحكم الجديد هو حكم الأكثرية المسلمة في البلاد، وصولاً إلى المظاهر الدعوية في المدن، وليس آخراً الجرائم التي ارتكبت بحقّ مدنيين معظمهم من الطائفة العلوية في مدن الساحل، وما رافقها من مظاهر إذلال وحطّ للكرامة، كل هذا السياق، شَحن الأجواء العامة بخطاب طائفي، دخل فيه قسم كبير من السوريين على الخطّ، بينهم محسوبون على الوسطين السياسي والثقافي.
في قلب هذا المشهد هناك مستويات عديدة متداخلة، تاريخية، وسياسية، وثقافية، واجتماعية، وطبقية، ونفسية، لا يمكن الفصل فيما بينها على طريقة العزل المخبري، لكن من الضروري بمكان توليد مقاربة أساسية- ما أمكن- تجمع كل هذه المستويات، ليكون بالإمكان تقديم تحليل مفيد لمستقبل الدولة والمجتمع والفرد في سوريا.
إن التطور غير المتكافىء للدول والاقتصادات والتجارب السياسية، يجعلنا نشاهد اليوم دولاً متقدّمة، تقيم في سلم أكبر الاقتصادات، وتتمتع بمزايا العلم والتكنولوجيا والرفاه المعيشي والخدمي والقانوني، وقد تراجع فيها دور الدين، ولم يعد شأناً عامّاً، وتتيح دساتيرها، بل وتحمي، حرية الاعتقاد، وفي الوقت ذاته، تدور فيه الكثير من الدول والمجتمعات في حلقة مفرغة، لتعيد إنتاج واستنتساخ مراحل سيئة من التاريخ البشري، أي مرحلة القرون الوسطى.
لم يعد محرجاً على سبيل المثال الحديث المعلن في سوريا اليوم عن أكثرية مسلمة وأقليات، ولم يعد محرجاً تصميم كثر على المجاهرة أو حتى القيام بوقفات تطالب بأن تكون سوريا “دولة سنّية”، أو “اموية”، وتنطوي هذه الظاهرة الفجّة والجديدة على سوريا والسوريين على كل عوامل ومؤشرات الفوات التاريخي، أو ما يمكن تكثيفه ب”التأخّر”، وأيضاً النكوص إلى ماضٍ بعيد، في مجمله ماضٍ متخيّل، غير مدركة ماهيته، أو حتى دينامياته التاريخية، أو مخاطره الراهنة والمستقبلية.
السلطة القروسطية، ومن ضمنها سلطة الخلافة العثمانية، تقوم على العامل الديني/ الطائفي، وتستمد منه شرعيتها، وقوانينها، وقسماً كبيراً من ممارساتها وطقوسها، ولا فرق هنا جوهرياً بين سلطة قروسطية مسيحية أو إسلامية، وتستند هذه السلطة إلى مجالين أساسيين اقتصادياً، هما الإقطاع والحرب، لتغذية خزينة السلطة، وضمان ولاء القادة العسكريين والمدنيين، أي أن السلطة القروسطية، مطلق سلطة قروسطية، هي سلطة قائمة بالضرورة ما دون المجتمع الصناعي، وبالضرورة ما قبل قيم الحداثة، وما تتضمنه من مجموعة حريات وحقوق مدنية للأفراد والجماعات.
أوجدت “هيئة تحرير الشام” سلطتها في إدلب، حيث يقوم الاقتصاد على موارد هجينة، من مثل بعض الزراعة، وضرائب المعابر، والمساعدات الأممية للمنظمات، وغنائم المعارك،وتستعين بمقاتلين أجانب، وقد أنشأت نظاماً تعليمياً دينياً سلفياً، في دائرة جغرافية وديمغرافية مغلقة، وبعد سنوات، وجدت نفسها، بفضل عوامل عديدة، أهمها الاتفاق الإقليمي الدولي، وقد أصبحت تمثّل السلطة في كل البلاد.
نموذج “موديل” “هيئة تحرير الشام” هو نموذج قروسطي بامتياز، يسعى إلى الحصول على شرعية داخلية، ويمكن إعراب الأمر سياسياً كالتالي: أنه في حال تعذّر الحصول على شرعية خارجية، فإنه من الضرورة بمكان أن تكون الشرعية الداخلية “العصبية” قادرة على المدّ في عمر “هيئة تحرير الشام” و”أميرها” أحمد الشرع في السلطة، ففي عقل وعقلية وتصوّر البنى القروسطية فإن أي خطوة نحو الحداثة هي خطوة نحو تفكّك البنية نفسها.
إن من يراهنون على إجراء “الأمير” أي تغيير في تفكيره وسلوكه، كمن يراهن على أن يُقدم الشرع على الانتحار، فهو موجود بحكم العصبية الدينية المذهبية، ويستمدّ منها شرعيته، ويبني عليها قاعدته الجماهيرية، في مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية المحدقة به وبمشروعه، وفي مواجهة العجز عن تلبية الاستحقاقات العامّة.
المجتمع السوري بعد حوالي 14 عاماً من الحرب، وما أحدثته من كوارث عديدة، يعرفها السوريون، قضت على الظواهر المدنية إلى حدّ كبير، خصوصاً أن القطاعين العام والخاص، أصبح إسهامهما رمزياً في الاقتصاد الكلي، في الوقت الذي أديرت فيه البلاد عبر اقتصاد الحرب، ونشأت مافيات لإدارة تجارة السلاح والمخدرات، وعصابات تعيش على الأتاوات والابتزاز، ومال استخباراتي، وقُضي على مجمل القطاعات المنتجة، وهربت معظم رؤوس الأموال خارج البلاد.
في ضوء تدمير قطاعات الإنتاج في سوريا، وفي ضوء غياب الريع كما في العراق وإيران، اللذين يعيشان على عائدات النفط، فإن ما يحدث في سوريا اليوم هو عودة نحو الزمن القروسطي، في الوقت الذي لم يعد فيه ممكناً استنتساخ مثل هذا الزمن من دون أن تكون هناك ريوع كافية “أموال من دون إنتاج”، كانت في عهد حافظ الأسد تأتي من خلال لعب سوريا دوراً وظيفياً في عدد من ملفّات المنطقة، وهو الآن أمر مستحيل كلياً، فسوريا تحوّلت كلّها إلى ملعب للقوى الإقليمية والدولية.
إن أي إطالة لوجود الأمير/ الشرع في السلطة، من شأنها أن تدخل المجتمع السوري في حلقات من العنف الطائفي، وتجعل من سوريا “دولة” قروسطية، تطرد ما تبقى في داخلها من حياة مدينية قائمة على قيم الإنتاج، والمصلحة، والتعايش، والعقلانية، وتجعل منها إلى أمد غير معروف، دولة خارج التاريخ الحديث.