رأي

 “الدولة المصفّحة”.. الكارتيل العسكري بوصفه بنية فوق سيادية في سوريا ما بعد الأسد

مالك الحافظ

في الفكر السياسي المقارن، يُقاس التحول نحو الدولة الحديثة بإعادة بناء العلاقة بين القوة والشرعية، بين من يحتكر العنف ومن يمثّل المجتمع. هذه المعادلة التأسيسية تتعرّض في سوريا الجديدة حالياً، لانحراف يتجلى في تشكّل ما يمكن تسميته بـ”الكارتيل العسكري–السياسي”، وهو تكتل سلطوي مغلق لا نريد تكرار صفات منه كانت قد تشكلت في فترة استبداد نظام الأسد الابن وتوظيف أدوات الإجرام ضد الشعب السوري في ثورته. هذا التكتل الخطير يتلبّس مؤسسات الدولة، بينما يُعيد تشكيلها وفق منطق فوق وطني، لا يعترف بالحدود ولا بالمواطنة السياسية.

الكارتيل، كمفهوم مستعار من الاقتصاد السياسي، لا يشير هنا إلى تآلف مصالح مؤقت، بل إلى بنية موازية تُدمج فيها أدوات العنف، والمصلحة الفئوية، والهيمنة الأيديولوجية، في جهاز واحد يُدير السلطة لا من خلال مؤسسات الدولة، بل عبر شبكات الولاء والانتماء.  في سوريا اليوم، تُمنح مفاصل القرار العسكري لعناصر أجنبية بشكل عبثي أو شخصيات مدعومة من الخارج بسبب الخضوع لتجاذبات المشاريع السياسية الإقليمية، وهذا الأمر لا يمكن اعتباره مجرد خلل ظرفي، بل هو تحوّل بنيوي من الدولة إلى التكتل، ومن السيادة إلى التمثيل الوظيفي.

الأمر لا يتعلّق فقط بانتهاك مبدأ الاحتراف العسكري، أو بإقحام مقاتلين أجانب في مؤسسة يُفترض أن تمثّل الإرادة الوطنية، بل بانتقال جوهري في تمثّل السلطة لنفسها. فالجيش في هكذا صيغة لا يُبنى على عقيدة وطنية، ولا على أساس وظيفي يرتبط بحماية الدولة، بل هو مُصمَّم ليحمي منطق السيطرة لا منطق العقد، وهو بذلك يُشبه “الميليشيا المؤسّسة”، أو بلغة أدق؛ البنية العسكرية التي ترتدي جلد الدولة، بينما تُفككها من داخلها.

هذه التحولات لا تُفشل مسار الانتقال فحسب، بل تُعيد تعريفه بالكامل. ما يُقدَّم اليوم بوصفه مشروعاً للجيش الوطني الجديد ليس سوى إعادة تموضع لقوى ما قبل الدولة، التي تستند في شرعيتها إلى القوة، وفي بقائها إلى الدعم الخارجي، وفي خطابها إلى مزاعم الاستقرار، بينما تُقصي كل منطق للمساءلة أو التمثيل.

حين تصبح المؤسسة العسكرية قناة لتدوير شخصيات خاضعة لعقوبات دولية، أو منصة لتوزيع النفوذ العابر للحدود، فإن المشروع برمّته يفقد قدرته على إنتاج ذاته كوطن. تتحوّل الدولة إلى كيان إداري هشّ، يعمل على هامش كارتيل متماسك يُدير القرارات الأساسية، ويحتكر امتلاك القوة الرمزية والمادية، فيما السلطة السياسية تتحول إلى واجهة لموازين قوى غير معلنة، تتقاطع فيها المصالح الأمنية مع الرهانات الإقليمية.

في هذا السياق، لا يمكن الحديث عن بناء سيادة وطنية، لأن مفهوم السيادة نفسه يصبح غريباً عن بنية الحكم. فحيث لا يُعاد تعريف السلطة على قاعدة العمومية والتمثيل، وحيث لا تُفكّك شبكات الغلبة القديمة، بل يُعاد ترسيخها تحت لافتات مختلفة، وحيث تستمر آليات الإقصاء للنخب العسكرية المنشقة عن نظام الأسد، وكذلك التفويض الخارجي، فإننا لا ننتقل إلى دولة، بل إلى نظام عسكري–أمني بلبوس مدني هش، تحكمه شبكات لا تظهر في واجهات الحكم، لكنها تتحكم في مساراته العميقة.

إن أخطر ما في هذا الكارتيل أنه يدمّر إمكانية تشكّل خطاب وطني جامع، ويحوّل المواطن إلى كائن معلق في مساحة رمادية، لا يثق بالدولة، ولا يجرؤ على الاعتراض، لأنه يعلم أن من يحكمه محصّن بالسلاح، تماماً كما فعل نظام الأسد البائد.

ولذلك، فإن مشروع بناء الدولة السورية الجديدة، إذا لم يبدأ بتفكيك هذا الكارتيل، واستعادة السلطة إلى الداخل السياسي والاجتماعي، فإن كل ما يُبنى فوقه سيظل هشاً، مصطنعاً، وعرضة للانهيار.

إن ما يُعمّق المأزق، ويضفي عليه بعداً سوسيولوجياً أكثر خطورة، هو أن هذا الكارتيل لا يعمل فقط كسلطة قهر فوق مؤسسات الدولة، بل كـ”نظام ثقافي بديل” يعيد صياغة مفردات الانتماء الوطني نفسها. فبدلاً من بناء هوية جمعية جامعة، يعاد ترسيخ الانتماء على قاعدة الولاء العسكري أو المذهبي أو الجهوي، ما يُضعف الهوية الوطنية ويُدخل الدولة في مرحلة إعادة تفكيك رمزي. في هذا السياق، تصبح المدرسة، النقابة، والإعلام مجرد امتدادات لهذا البناء الفوقي، تُكرّس ثقافة القوة والتبعية على حساب ثقافة الحق والمسؤولية.

أما الخطاب السياسي الناتج عن هذا الكارتيل، فهو لا يتحدث بلغة الدولة، بل بلغة “المظلومية المؤسّسة”؛ حيث يتم تقديم السلطة الجديدة بوصفها ضحية سابقة تستحق احتكار القرار، وهذا الخطاب بالضرورة يُفرغ المفاهيم من مضمونها، فيُعاد تعريف السيادة باعتبارها أداة صراع، لا إطاراً قانونياً محايداً.

هكذا، ومع كل توسّع لهذا الكارتيل، يخسر المجتمع السوري فرصة جديدة لبناء دولة حديثة تقوم على عقد اجتماعي حر. بل يُعاد إدخاله في دوامة من الإخضاع الرمزي، حيث لا أحد يملك صوته، ولا شيء يعلو على منطق القوة. وما لم تتم مساءلة هذه البنية تفكيكاً وتمثيلاً، فإن سوريا ستظل رهينة لمرحلة انتقالية بلا أفق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق