رأي

في ضرورة فضح خيانة المثقف السوري للديمقراطية

حسام ميرو

إذا سألت مثقفاً سورياً من المحسوبين على المعارضة التاريخية أو المستجدّة بعد عام 2011 قبل سقوط النظام عن أهم ما يطمح له في النظام السياسي المنشود في حال سقط الأسد، فإنك ستسمع منه كلمة الديمقراطية، وسيحدّثك طويلاً عن أن سوريا لن تصبح دولة بأي معنى من المعاني إذا لم يكن نظام حكمها ديمقراطياً، ويمكن لأي كان أن يراجع مئات الوثائق التي كتبتها قوى المعارضة، أحزاباً وتحالفات ومشروع تحالفات، حتى أن المرء سيجد مفردة الديمقراطية قد ألصقت بمعظم الأحزاب والتكتلات.

ماذا حدث للمثقف السوري، وأقولها هنا بالعموم، أي عن الأغلبية من المثقفين والسياسيين، وليس عن من يشكلون الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها؟

ماذا حدث لهذا المثقف، فمن أوائل البيانات التي صدرت لمثقفي،ن لكثر منهم تاريخ في الشأنين الثقافي والسياسي، حول مستقبل سوريا بعد الأسد، لم تذكر كلمة الديمقراطية ولا لمرّة واحدة، وفي الفضاء العام، سيسمع المرء تبريرات عديدة لمثقفين للتراجع عن مطلب الديمقراطية، وذلك لوجود ما يعتبرونه أولوية، إي إعادة الأمن والاستقرار والاقتصاد والمعيشة…إلخ.

ليس جديداً هذا على المثقف السوري، ففي مرحلة ما بعد الاستقلال، كانت خيانة المثقف السوري للديمقراطية للمرة الأولى، بحجة “الاشتراكية” تارة، و”مقارعة إسرائيل والإمبريالية” تارة أخرى، وهو ما يعالجه المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ في كتابه “الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة” الصادر عام 1977.

 المثقف الذي نقصده هنا هو المثقف المحسوب على اليسار والعلمانية والديمقراطية والمواطنة، والذي يفترض أنه يعلم تمام العلم بأن أي نظام سياسي لا يقوم على الديمقراطية سينتهي عاجلاً أم آجلاً إلى نظام استبدادي، فأي مجموعة حزبية أو عسكرية تصل إلى السلطة ولا تقرّ بالديمقراطية فهي تعمل بلا شك من أجل ديمومتها في الحكم، وربما نسي هؤلاء ممن اطلعوا على ما قاله فريدريك إنجاز بأن السلطات حين تقرّ بالديمقراطية فهي تقرّ بقبولها بالخروج من السلطة.

لقد انقلب هؤلاء على كلّ شيء، على معارفهم أولاً، وعلى تاريخهم ثانياً، وعلى نضالاتهم ثالثاُ، لكن مع مفارقة تدعو إلى السخرية، وهي أن معظم هؤلاء ليسوا الآن في السلطة، وليس من المتوقع أن تسمح لهم السلطة بأن يشاركوها الحكم، فالذين تحدّث عنهم المفكر ياسين الحافظ هم نخب مثقفة سياسية وصلت إلى السلطة ثم تنكّرت لشعار الديمقراطية، أو قوى شاركت بشكل من الأشكال في السلطة، ثم خانت الديمقراطية، باسم قضايا اعتبرتها أهم في حينها، أي أن خيانتها لمبدأ سياسي كانت ترفعه خلال نضالها حدثت تحت تأثير وصولها للسلطة، وغواية البقاء فيها,  

المقارنة بين من خانوا الديمقراطية في ستينيات القرن الماضي وبين من يخونونها اليوم، أن الصنف الأول ربح في ساحة الصراع على السلطة، ثم آثر البقاء فيها، وأوجد الحجة النظرية الأيديولوجية المناسبة، بينما الصنف الثاني، لم يصل إلى السلطة، بل أتت سلطة إلى الحكم هي نقيضه الموضوعي، والتي كان يصف نواتها الأساسية “هيئة تحرير الشام” بالإرهابية والمتخلفة والراديكالية، والتي لا تشبه “الشعب السوري”.

هذه الفئة الواسعة من المثقفين التي خانت الديمقراطية بعد سقوط نظام الأسد، ووصول “هيئة تحرير الشام” إلى الحكم، تعيد التاريخ على شكل مهزلة، ففي ستينيات القرن الماضي كانت خيانة النخب الماركسية والقومية للديمقراطية بمنزلة دراما، أما اليوم فهي مهزلة، خصوصاً أن كثر من فئة المثقفين هذه، بعضها يعيش في الغرب، منذ أكثر من عقد من الزمن، وهناك من اكتسب جنسية أوروبية، ويمارس حقه في الانتخاب، ومع ذلك تراه يستميت دفاعاً عن السلطة الموجودة اليوم في حكم بلده الأم.

إذا ما قورنت اليوم السلطة الحالية بهؤلاء المثقفين، بمعيار المشروع والموقع، فإننا سنجد أن هذه السلطة تستند إلى موقعها الحالي في تبرير أفعالها، وإلى رغبتها بالبقاء في السلطة، وهو أمر مفهوم، بل متوقّع منها، قياساً إلى بنيتها ونشأتها وتاريخها، لكن المثقف المتنكّر اليوم للديمقراطية فإنه بمجرد قيامه بعملية التبرير فإنه يخسر مشروعه وموقعه، أي إنه يمارس عملية اغتيال لذاته، والمستغرب أنه يبدو سعيداً بلعب مثل هذا الدور.

كان بعض أهم كبار الفلاسفة والمفكرين في القرن التاسع عشر، خصوصاً الماركسيين، يستخدمون أوصافاً قاسية بحقّ مثل هذا النوع من “النخب” و”المثقفين”، وهي أوصاف تصل إلى حدّ الشتيمة عند لينين، خصوصاً الفئة الانتهازية، المستعدّة للتنكر لكل شيء، بما فيه وعيها ونضالها، من أجل تحقيق مكاسب تافهة، وكان يضيف إلى وصفه لهم بالانتهازيين وصف التافهين، كتعبير عن احتقاره لضحالتهم الفكرية والأخلاقية.

إن توصيف هذه الفئة اليوم أمر ضروري، لاستعادة سكة النضال الديمقراطي، والعمل بلا هوادة من أجل بقاء هدف الديمقراطية أساسياً في النضال ضد الاستبداد الجديد، ولذا فإن هؤلاء المثقفين ينبغي فضح تبريراتهم الضحلة،  ومآلات سلوكهم المعادي للديمقراطية، كجزء من العمل اليومي من أجل الديمقراطية، فالاستبداد ليس قوياً بذاته وحسب، بل وقوي أيضاً بمن يبرّرون أفعاله وجرائمه والنتهاكاته.    

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق