دولة الولاء الجهادي في سوريا.. نحو تفكيك الدولة لمصلحة الجماعة العقائدية؟
مالك الحافظ
في خضم التحوّلات التي تعصف بالمشهد السوري، يطفو إلى السطح خطاب يحاول إعادة صياغة هوية الكيان السوري على أسس لا وطنية، بل عقدية–جهادية. تصريحات السيد أحمد الشرع الأخيرة لصحيفة “نيويورك تايمز” بشأن “تجنيس المقاتلين الأجانب الذين عاشوا في سوريا وناصروا الثورة”، لا يمكن قراءتها كمسألة إجرائية تتعلق بإعادة تعريف المواطنة فحسب، بل كإعادة هندسة جذرية لطبيعة الدولة السورية ذاتها، على أنقاض الفكرة الوطنية.
إن المقاتلين الأجانب الذين يتحدث عنهم الشرع لم يدخلوا سوريا نصرة للكيان السياسي الوطني، ولا التزاماً بشعارات الحراك الشعبي الذي انطلق عام 2011، بل حملوا معهم رؤى سلفية جهادية عابرة للحدود؛ ترى في سوريا أرض رباط وقتال، لا وطناً أو دولة قابلة للانتماء المدني. هؤلاء المقاتلون أبناء سردية عالمية تتجاوز الخرائط، ولا تعترف بالانتماءات الجغرافية إلا بقدر خدمتها لهدفهم العقدي المتمثل بإقامة مجتمع يقوم على نصرة العقيدة، لا على ميثاق اجتماعي مشترك.
من هذه الزاوية، يبدو أن الشرع من خلال حديثه عن تجنيس هؤلاء “المجاهدين”، لا يؤسس لدولة مواطنين، بل لدولة جماعة، حيث يصبح معيار الانتماء هو الولاء الجهادي، لا الانتماء الوطني. في الفكر السلفي الجهادي، كما أبرزت تجارب سابقة مثل تجربة “داعش”، لا تقوم شرعية الدولة على أرضٍ أو شعبٍ موحد، بل على العقد القتالي–العقائدي، حيث تصبح البيعة والإيمان القتالي بديلاً عن العقد الاجتماعي الذي يربط الأفراد بالدولة الحديثة.
تصريحات الشرع، إذا ما تُرجمت إلى سياسات فعلية، ستؤدي إلى تفكيك ما تبقى من الدولة السورية وتحويلها إلى ملاذ ديموغرافي لجماعات مسلحة عقائدية، كما حدث في أفغانستان بعد انسحاب السوفييت، حين تحولت الدولة إلى بؤرة لاستقطاب عالمي للمجاهدين الذين قوضوا لاحقاً إمكانات بناء دولة وطنية مستقرة.
في السياق نفسه، جاءت مداخلة غير بيدرسن (المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا) في مجلس الأمن (بتاريخ 25 نيسان 2025) لتلقي بظلال إضافية على هذه التحولات الخطرة. ففي لهجة حذرة لكنها واضحة، وصف بيدرسن المقاتلين الأجانب في سوريا بـ”الإرهابيين”، لتكون على شكل تحذير غير مباشر من تداعيات استمرار مشروع منحهم جنسية الدولة الجديدة. إشارة بيدرسن هنا تُشكّل مكاشفة دبلوماسية ناعمة للسلطة الانتقالية، تنبئ بأن استمرار هذا المسار سيضع هذه السلطة في مواجهة قطيعة دولية، ويعرضها لفقدان الاعتراف الدولي الهش الذي تحاول ترسيخه.
في هذا السياق، تبرز معضلتان رئيسيتان؛ الأولى تتعلق بشرعية السلطة الانتقالية نفسها، إذ كيف يمكن لكيان سياسي يدّعي تمثيل سوريا المستقبل أن يقوم على تجنيس مقاتلين أجانب؟ والثانية تتعلق بمفهوم الدولة ذاتها؛ إذ أن تغليب الولاء العقائدي على الانتماء الوطني ينسف من الأساس إمكانية بناء دولة مدنية موحدة، ويفتح الباب أمام نموذج “الدولة–الميليشيا”، التي تصبح فيها الجماعات المسلحة الحاملة لهوية دينية أو جهادية، هي الفاعل السياسي الأصيل، لا الدولة ككيان حقوقي شامل.
إن إصرار بعض الدوائر داخل السلطة الانتقالية على تلميع هذا المشروع تحت غطاء “الوفاء للثورة” أو “نصرة المستضعفين”، لا يغير من جوهر الكارثة المتمثلة بإعادة إنتاج شكل جديد من التسلط الميليشيوي، المقنّع بشعارات الثورة، لكن المكرّس لنسف أي إمكان لبناء سوريا وطنية.
ولا تقلّ خطورة الفصائلية التي أشار إليها بيدرسن عن خطر مشروع تجنيس المقاتلين الأجانب. فاستمرار الحالة الفصائلية، بما تحمله من تفتت عسكري وتعدد مراكز قرار، يعني بالضرورة استمرار منطق الأمر الواقع، حيث تحتفظ كل مجموعة بقوتها وسلطتها الذاتية، ما يجعل أي محاولة لبناء مركز قرار وطني جامع بمثابة وهم. كما أن الانقسام العسكري في ظل غياب رؤية سياسية موحدة، يهدد بإعادة إنتاج الصراع الأهلي في صور جديدة، ويجهض أي فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس مدنية جامعة.
في المجمل، نحن أمام مشهد خطير؛ تغازل فيه سلطة انتقالية الفكر الجهادي العابر للأوطان، وتغض الطرف عن تفككها الفصائلي الداخلي، بينما تتجه سوريا أكثر فأكثر نحو نموذج “الدولة الشبكية” أو “الدولة الزبائنية”، حيث تتوزع السلطة بين جماعات مصالح ومراكز قوى عقائدية متناحرة، بدلاً من أن تتأسس على ميثاق وطني جامع.
إن الدفاع عن الثورة في جوهره، لم يكن ولن يكون عبر تجنيس الغرباء ولا عبر تمجيد ثقافة الولاء العقائدي العابر، بل عبر إعادة بناء مفهوم المواطنة السورية على أسس الحرية والمساواة والكرامة، بعيداً عن كل أشكال الإلغاء والهويات المغلقة.
بغير ذلك، فإن سوريا الجديدة ستكون مجرد نسخة أخرى من أفغانستان التسعينيات؛ دولة معلقة بين حدود مهترئة وولاءات دموية، وهي أبعد ما تكون عن دولة حقيقية لشعب موحد.