ما يشبه نعياً أخيراً ،في جنازة دبلوماسيٍ حاذق!

بقلم : فهد الحوراني (نشرت في تشرين الاول 2019)
لا يمكن أن يخرجك عن هدوئك ، ويستفز قلمك أكثر من ظهور وزير الخارجية السوري وليد المعلم شبه النادر كل عام ..الأمر الذي يجعلك تتساءل عن سرِّ بقاء مثل هذا الرجل على سدّة أدق وأخطر الوزارات (السيادية).
يكادُ المرء أن يشكّ بذاته، بإنسانيته ،وربما برجولته..إلى جانب حزنه الشديد على ما وصلت له حال السوريين المزرية ،والمخجلة .
كذلك يَحرم المرءَ وجودُ مثل هذه” الرجال” في سدة الحكم ، أيَّ تفكير بالمستقبل ، ويضعه في إطار الانشغال بالحاضر،والماضي سالخاً عنه تاريخه وإرثه.
وجه وليد المعلم وجهٌ معيوشٌ وأصيل عن الاستبداد.
وجهه كصندوق جدتي القديم المعشّق بالفضة والصدف ، في زاوية الدار ،ممنوع عليك تحريكه أو فتحه ، أو حتى تنظيفه من غبار السنين. الفارق الوحيد بينهما أن صندوق الجدة يمكنك أن تسرق منه، بعض الراحة الدرعاوية والبسكويت أيام الولدنة وهي تلمحك من بعيد لتغض النظر بسعادة عارمة.
يقول محمود درويش: ليس على الشاعر من حرج،إن كذب وهو لا يكذب إلا في الحب. أما في حال وزير خارجيتنا المخضرم فيصلح القول بعد الإذن من الدرويش:فليس على السياسي من حرج إن كذب، فهو يكذب في كل شيء…
فقد أنكر المعلم قبل أيام معرفته بوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، وذلك على هامش فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك ،ورنّ متفاخراً صوت المعلم في الأروقة هناك :من بومبيو؟أنا لا أعرفه ،فرد عليه المراسل:إنه وزير خارجية أمريكا.
فأجابه المعلم باللهجة السورية “منيح أنك بتعرف..أنا ما يعرفه” معبراً عن خفة ظلٍّ
، بكل صلف عما يشعر به السوريون ،بعد حرب طاحنة ،دخلت سنتها التاسعة.
في كل خريف لنا موعدٌ مع القمر في نيويورك ، موعد مع وليد المعلم وزير خارجية الجمهورية العربية السورية وهاهو اليوم يتملص ويتخلص من الأجابة بحرفة الرائي العالم ،والدبلوماسي الحاذق.
كان يسير هناك متعباً من المشي في أزقة نيويورك بعد أن رفض مايك بومبيو اعتباره من كبار الشخصيات تاركاً اياه بدون مرافقة أو سيارة خاصة ،متناسياً كالعادة أن بومبيو هو من وقع له على تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة لحضور الكرنفال الأممي.
وكما مسح مدناً سورية عن الخريطة فهو لا يجد حرجاً من مسح بومبيو وأوربا عن الخريطة.
يركض وليد ليرمي روحه المتعبة هناك في حضن السيد سيرغي لافروف “نظيره الروسي”تجاوزاً، متباكياً: يا ابن أمي انني وحدي هنا ،خبئني من الذئاب.. واغسلني ببعض الفودكا كي أطهر .لقد كثرت آثامي يا سيرغي ..كم أشعر بالعار ..وبرد نيويورك..
يرد لافروف: لن يغسل عاركَ كل ماء بردى في الربيع.
أخرج من جلدك ، أخرج من جلدك. ويضيف الوزير الروسي مبشراً:
هناك انتخابات في دمشق،لكن على موعد ساعتي المذهبة.
يضحك المعلم لتجتاح ضحكاته أرواحنا الهشة،كثورٍ طارحاً أحلامنا على رصيف الموت.
ما بالك يا وليد يهمس لافروف:
أبواب دمشق السبعة مغلقة ومختومة بدم أهلك هذه الأيام، فالدخان الأبيض سيصعد بالقرب من إحدى بوابات الكرملين الباردة..
لا تخف يا صديقي،هناك طفلٌ ميّت في داريا ينام قرب صخرة سيستطيع تعليمك بعضاً من اللغة الروسية.
بكثير من الانفصال عن الذات، وبدون أن ينتبه يُظهر المعلم مدى الإنكار الذي يعيشه في ظل مقاطعة دولية لحكومته،واستفراد ايراني وروسي، برسم سياساتها وتوجيهها. فاقداً القدرة على التمييز بين الخيط الأبيض والخيط الأسود في فجر سوريا المدمى.
خلطٌ مريبٌ في الأجندات ، شطحات سياسية ملونة بالنفاق، ووجهٌ مجهدٌ يكاد لا ينفع حتى لأقنعة الثعالب..
يلهثُ الوزير الدمشقي بجسده الثقيل في بلاط الحاكم ،وراءَ وسام من فضة ، أو نجمة على جبينه بمثابة الفضيحة.
الوزير المخضرم ، ينكر أن البلاد محاصرة ، ينكر التطهير السياسي والاثني في أرجائها..
كذلك ينكر السيد المعلم دم أطفال دوما، وأرواحهم المعلقة في السماء كأثر فراشة.
ينكر الجامع العمري في درعا ،وتدمر،والرقة،
يشرب بعض الفودكا الروسية المغشوشة..ففي دمشق الآن لا نبيذٌ جيدة أو أعراس. يضحك ممازحاً أحمد أبو الغيط المبسوط برؤية الجعفري والمقداد برفقة الوليد: لانفع لنا من جامعتكم العربية ، لا تهمنا الأكاذيب، ففي دمشق لا وقت إلا لنشوة النصر وبعض الجنازات .
وبعد ثماني سنوات من الكارثة السورية ،المعلم لا يتعلم ، ولا يخجل من جهله،فكل أوراقه القديمة تآكلت وكل خطاباته المكررة، مصيرها الاهتراء، أما نكاته الممجوجة فتذروها ريح صفراء.
إنك أيها السيد ( المعلم ) مجرد عابر سبيل ثقيل الظلّ ، مرّ يوماً قرب حانة في أول الشارع المستقيم، لم تهتز لك َ هناك ياسمينة، أو حتى تلمحك حصاةٌ عند باب الكنيسة.
لا تبكي يا سيدي على نكرانك ثلاث مرات كل صباح دم طفلٍ في الشيخ مسكين ، أو آهات أم فقدت أولادها الخمسة في إدلب ، ونكرانك لدمعات صبية دمشقية تبكي عريسها المسجى على حدود جوبر.
المعرفة سكينة والمعرفة قداسة ،أما الجهالة فظلم وظلام.
أيها المعلم لن تسكن روحك ، ولن تنام بهدوء في مثواك الأخير ، فعدد كوابيسك سيكون أكثر من دموع السوريات الثكلى جميعاً.
” وقل وهل يستوي الذين يعلمون ، والذين لا يعلمون.” صدق الله العظيم.
……………………………………………………………………………………..
“هامش”
وليد بن محي الدين المعلم ولد عام ١٩٤١ حي المزة في دمشق،ومحي الدين بن عربي الملقب بالشيخ الأكبر والمدفون في سفح جبل قاسيون..إنها مجرد صدفة هما لايقربان بعضهما ..يجيب مختار المزة ضاحكاً..الله يرحمك يا محي الدين المعلم ..كنت دمثاً وخفيف الظل…