بعد عام من “طوفان الأقصى”: تقييم سياسي وجيوستراتيجي ودولي للأسباب والنتائج والتوقّعات
مقدمة:
فاجأت عملية “طوفان الأقصى” معظم الفاعلين الأقليميين والدوليين، فهي المرة الأولى في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يحدث مثل هذا الاختراق الأمني والعسكري، ويقتل ويؤسر المئات من الإسرائيليين، ووضع هيبة دولة إسرائيل على المحك، أمام مواطنيها وأمام العالم، حتى لو ظهرت بعد ذلك مؤشرات تقول باحتمال إن بنيامين نتنياهو، كان وبعض قيادات الحكومة على علم بأن حدثاً كبيراً سيحدث.
هل كانت عملية “طوفان الأقصى ضرورة حمساوية وفلسطينية، أم احتياج خارجي؟
كانت “حماس” تدير فعلياً قطاع غزة من النواحي كافة، السياسية والأمنية والخدمية، وتمر إليهاّ أموال الدعم القطري من خلال إسرائيل نفسها، وهي الأموال التي مكّنت “حماس” من مأسسة نفسها، وفرض حكمها الإداري، وبالتالي، فإن القائمين على قرار “طوفان الأقصى”، كانوا يعلمون أن هذه العملية، من شأنها التأثير على استقرار وضعهم في حكم غزة، كسلطة أمر واقع، ومع ذلك، اتخذوا القرار.
الجناح السياسي/ العسكري الداخلي الذي اتّخذ قرار العملية في حماس، هو الجناح المتحالف مع إيران، ما يعني بالضرورة وجود جناح آخر، ليس موثوقاً من قبل إيران، أخفي عنه قرار العملية وتفاصيلها، ولم يشارك في نقاشها، وما يمكن أن ينجم عنها من مآلات، ما يجعل السيناريو الأكثر ترجيحاً، وربما الوحيد، هو أن قرار العملية هو قرار إيراني.
بهذا المعنى، لم تكن العملية احتياجاً فلسطينياً عاماً، ولم تكن تحوز على إجماع من القيادة السياسية في “حماس”، وإنما تنفيذاً لرؤية إيرانية، لا تتعلق بالصراع مع إسرائيل، بل بمصالح إيران بشكل مباشر واستراتيجي مستقبلي.
ما وراء القرار الإيراني:
على الرغم من تمدّد النفوذ الإيراني في عموم المشرق العربي (العراق، وسوريا، ولبنان)، مضافاً له ساحة اليمن، إلا أن هذا النفوذ، الذي ينبغي أن تكون له مردودية استراتيجية، وليس فقط مجالاً للهيمنة، أصبح بعد خطوات التطبيع العربي مع إسرائيل مهدداً من الناحية الاستراتيجية، خصوصاً أن هذا التطبيع، المدعوم بتصوّر أمريكي غربي هندي آسيوي (اليابان وكوريا الجنوبية)، يجعل من إسرائيل ذات قيمة استراتيجية في النظام الرأسمالي العالمي لعقود مقبلة، فما سمي بحلف “الشراكة”، لتصعيد دور الهند كأرض مصنع للعالم، على حساب مكانة الصين، يجعل من ميناء حيفا الميناء الرئيسي في مرور البضائع من الهند إلى أوروبا وباقي أنحاء العالم، مروراً بخطوط برية متطورة لنقل البضائع من الخليج إلى ميناء حيفا.
القيادة الإيرانية، وبغض النظر عن بعدها المذهبي العقائدي، تدرك أن حلف “الشراكة” في حال تحقّق واقعياً، من شأنه أن يزيد ويعمق من عزلة الاقتصاد والدور الإيرانيين، وهي بالأساس تعاني منذ عقود من أزمة مستفحلة في العلاقات الدولية، كما أن ما استثمرته في ساحات المشرق واليمن، سيكون بلا أي معنى تقريباً.
قرار القيادة الإيرانية السياسية والعسكرية، كان الهدف منه خلط الأوراق، وإعاقة التطبيع العربي مع إسرائيل، معتمدة على ردّ فعل قوي وتدميري من قبل إسرائيل، يعيد تصعيد مكانة القضية الفلسطينية من جديد عربياً وإسلامياً ودولياً، وحشد حالة مناصرة لقضية فلسطين، ليس الهدف منها من الناحية العملية إظهار عدالة القضية، وإنما إعاقة المشروع الجديد في الاقتصاد العالمي، الذي يهدّد مكانة إيران الاستراتيجية.
ماذا حدث داخل إسرائيل؟
ردّ الفعل الإسرائيلي، جاء من زاوية رؤية، تحوّل “طوفان الأقصى” إلى فرصة، ينبغي استثمارها استراتيجياً، فقد أصبحت إسرائيل معنية بإثبات عدد من الأمور:
1- تريد إثبات قدرة الدولة ومؤسساتها العسكرية على القيام بواجب الدفاع عن أمنها ومواطنيها ومصالحها.
2- تريد إثبات أن أي محاولة لزعزعة مكانتها الإقليمية، ستواجه بردود فعل عنيفة وحاسمة.
3- تريد إثبات قدرتها للحلفاء بأنه يمكن الاعتماد عليها في مشروع “الشراكة” للاقتصاد العالمي.
وأيضاً، أراد بنيامين نتنياهو، إثبات جدارته بالحكم، على الرغم من كل الأزمات القانونية التي يعيشها، وكل القضايا التي يواجهها في المحاكم، وأن يجعل كل تلك الأزمات تبدو “لا شيء” تقريباً، إذا ما قورنت بالنجاحات التي يمكن له أن يحققها لأمن ومستقبل إسرائيل، والتحول إلى بطل قومي.
تمكن بنيامين نتنياهو التصدي لكل الأصوات التي وقفت ضد طريقة معالجته ل”طوفان الأقصى”، وتمكّن من إحداث حالة شبه إجماع على رؤيته، وتجاهل موجة المناصرة التي ارتفع صوتها في العالم لاستنكار ردّ الفعل الإسرائيلي، معتمداً على قائمة كبيرة من الدول الداعمة إقليمياً ودولياً، والاستفادة من التناقضات الكبيرة والحادّة داخل مجلس الأمن الدولي.
مواجهة إيران في الساحات:
تبنت إيران وحلفاؤها سياسة “وحدة الساحات” في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن، وكلّف كل فريق من الحلفاء بمهمة “إسناد” غزة، في محاولة لتشتيت جهود المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، فبدأ “حزب الله” اللبناني بإطلاق صواريخ ومسيرات، فيما سمي “بحرب المشاغلة”، وكذلك قامت فصائل عراقية بتوجيه مسيرات وصواريخ ضد إسرائيل، وهو ما قامت به جماعة الحوثي في اليمن، التي ذهبت إلى حدّ تهديد ممر باب المندب، والتأثير على هذا الطريق الحيوي للتجارة البحرية في العالم، وقامت باستهداف سفن تجارية، بحجة أنها تابعة لشركات إسرائيلية.
الخطة الإسرائيلية، كما توضحت مع الوقت، قامت على مواجهة الأمر العاجل والأكثر أهمية:
1- إضعاف وشل قدرات “حماس”، واغتيال قادتها الميدانيين والأمنيين، وإحداث دمار شامل في غزة، بحيث لا يكون بإمكان “حماس” أن تعود إلى حكم غزة مرة ثانية، وجعل الدول الإقليمية لاحقاً مسؤولة عن إعادة إعمار القطاع، وخلال هذا السياق، أثارت إسرائيل مخاوف من موجة لجوء فلسطينية إلى مصر، وبالتالي، جعل مشكلتها مشكلة للآخرين، بل وفرصة للتخلي عما تعتبره “خزاناً بشرياً” ل”حماس”.
2- تعاملت إسرائيل مع حزب الله لأشهر طويلة برد فعل موازٍ بالقوة، والردّ على صواريخه بضربات غير حاسمة، لكنها في الأثناء، اغتالت قادة عسكريين إيرانيين في السفارة الإيرانية في دمشق، هم من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني، وتابعت سياسة الاغتيال، لتطال عناصر من الصفوف المدنية والمتوسطة في “حزب الله”، في عملية تفجير أجهزة “البيجر” واللاسلكي، والتي استهدفت أكثر من 3000 عنصر من عناصر وعاملين في الحزب ومؤسساته، وانتقلت بعدها لاغتيال قادة عسكريين رفيعي المستوى، وصولاً إلى اغتيال حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، ورمزه لعقود، ومن بعده، اغتيال خليفته في قيادة الحزب، هاشم صفي الدين، وتدمير القدر الأكبر من البنى العسكرية للحزب، ومنصات صواريخه، ومستودعات الذخائر، وتهجير القسم الأكبر من أبناء الضاحية الجنوبية، التي تعدّ معقل الحزب.
3- احتوت إسرائيل الهجوم الإيراني الصاروخي الأول، الذي شنّته الجمهورية الإسلامية ردّاً على عملية اغتيال قادة عسكريين في سفارتها بدمشق، واغتالت اسماعيل هنية في طهران، كما احتوت الردّ الثاني لإيران، انتقاماً لاغتيال هنية ونصر الله، وأظهرت محدودية قوة الردّ الإيراني، قياساً إلى المنظومات المتعددة للدفاع الجوي الإسرائيلي.
خلاصات وتوقعات:
1- إن جزءاً أساسياً من مستقبل النظام الاقتصادي العالمي يتحدّد الآن في منطقتنا، رأس حربته في المنطقة إسرائيل، وهذا الصراع، لئن استخدم فيه البعد العقائدي الديني والمذهبي، إلا أن جوهره هو بحث كل طرف عن مصالحه الاستراتيجية.
2- بما يخصّ ترتيبات اليوم التالي في غزة، فإن “حماس” التي نعرفها، لن تكون جزءاً أساسياً منها، وهو ما سيصبّ في مصلحة السلطة الفلسطينية.
3- حسمت إسرائيل موقفها النهائي من إمكانية التعايش مع “حزب الله”، ولم يعد الهدف فقط، إعادة الحزب إلى ما وراء الليطاني، وتنفيذ القرار 1701، بل الإطاحة بكل منظومة الحزب، وشل قدرته على النهوض مجدداً، وهذا الواقع الجديد، سيفتح الباب أمام صراعات وترتيبات جديدة في لبنان.
4- ستطال الضربات الإسرائيلة كل أدوات “محور المقاومة”، خصوصاً في العراق واليمن، وإحداث ترتيبات مستقبلية، لتقليص نفوذ إيران بشكل كبير على تلك الأدوات الفصائلية، تمهيداً لتأمين منظومة أمن واستقرار جديدة في المنطقة، تخدم مشروع “الشراكة” المقبل.
5- سيدفع هذا المسار أجلاً أم عاجلاً إلى تفجير أزمات داخلية في إيران.
6- وضعت الأحداث الجارية النظام السوري أمام مفترق طرق، فإما أن يستمر في تحالفه مع إيران كداعم لوجوده، أو أن يتخلى عنها، لتجنب الخيار الأسوأ من قبل إسرائيل.
ملاحظة: تحتاج النقطتان 5 و6 إلى تقييم أكثر توسّعاً وتفصيلاً، سنقوم في الحزب الدستوري السوري (حدْس) بمعالجتهما لاحقاً.
05-10-2024