مؤتمر وأد الحوار الوطني
حسام ميرو
تجاوزت السلطة السورية الجديدة كلّ النصائح التي قدّمت لها كي يكون مؤتمر الحوار الوطني مؤتمراً تأسيسياً للجمهورية السورية الثالثة، وأصرت على “سلقه” على عجل، من خلال لجنة تحضيرية ضعيفة من حيث الاطلاع على على التنوع السوري بكل أشكاله السياسية والديمغرافية والمدنية والأهلية، وبعد عدد من الندوات المقتضبة في محافظات سوريا، استثنيت منها مدن الشمال والشمال الشرقي، عُقد مؤتمر الحوار الوطني لمدة يوم واحد، بمشاركة حوالي 600 شخصاً.
كلّ مطلع على تاريخ نشأة الدولة السورية، يعلم أن المؤتمر الأول المؤسس للدولة السورية، بعد انهيار السلطنة العثمانية، امتدّ من يونيو/ حزيران 1919 ولغاية مطلع مارس/ آذار 1920، وشارك فيه مندوبون عن كافة الأقاليم السورية آنذاك، حيث كانت سوريا تضم الأردن وفلسطين ولبنان، والمشاركون هم في الأصل كانوا نواباً في مجلس المبعوثان (مجلس نواب الشعب في السلطنة)، وعلى اطلاع كافٍ على مناطقهم وعلى الحياة البرلمانية، وكان المؤتمر منذ انطلاقته في حالة انعقاد دائم، لمناقشة كل القضايا التي سيتناولها الدستور المؤسس للدولة السورية.
منذ عام 2011، وبسب التحولات التي عرفتها سوريا بعد الثورة، برزت قضايا خلافية مفصلية بين السوريين، وقد جرى نقاشها في مختلف ندوات وورش عمل ومؤتمرات عقدتها مختلف المعارضات السورية، التي كانت ممثلة في النادي الرسمي للمعارضة، أو غير الرسمية، التي لم تكن منضوية في النادي الرسمي، ومن تلك القضايا، مسألة نظام الحكم، وهوية الدولة، ومسائل المواطنة العديدة، والتنوع القومي، ومهام الجيش والأمن في سوريا الجديدة، والتوجه الاقتصادي الأمثل في بلد مدمّر ومنهك مثل بلدنا، وكيفية تقديم حلول إسعافية للشريحة الأكبر من المواطنين الذين يعيش حوالي 90% منهم تحت خطّ الفقر، وطبيعة العلاقات الخارجية مع الإقليم، وشكل الإدارة مركزي أم غير مركزي، وقضايا أخرى لا تقل أهمية.
هذه القضايا تنطوي على أبعاد عديدة، منها العام، ومنها السياسي، ومنها الاختصاصي، وهي تواجه السوريين بعد عقود من القمع والاستبداد، وبعد أكثر من 13 عاماً من التدمير والحرب والتدخلات الأجنبية والاحتلالات، وحدوث انقسامات عديدة بين السوريين، وتضارب في مصالحهم في حالات كثيرة، وهناك ملف شائك، هو ملف العدالة الانتقالية، ليس فقط المتعلق بكشف مصير المغيبين في السجون، بل أيضاً بشكل المعايير والآليات والإمكانات والمحاكم التي ستنفذ من خلالها العدالة الانتقالية، وهذه القضايا الشائكة ذات طابع مصيري، إذ يتوقف على طريقة معالجتها مصير البلاد، دولة وحكماً وشعباً.
إن استقرار سوريا دولة ونظام حكم واقتصاد وسلم أهلي، كلها أمور لا يمكن تحقيقها بشكل فعلي وفعّال إذا لم يتوصل السوريون إلى توافقات حولها، توافقات تنطلق من ضرورات مستقلبلية، أي ضرورة بقاء سوريا ككيان ودولة، وأن تكون قابلة للسلام المستدام، ووجود تنمية تطال كل الجغرافيا السورية، ولا يمكن تصوّر حدوث توافقات من دون أوسع مشاركة تمثيلية للسوريين، من الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني والأهلي، ومن ذوي الخبرة والعلم والاختصاص، لإيجاد صيغة تحوز على رضا عام من جهة، وقابلة للتطبيق من جهة ثانية، وتسهم بشكل أكيد في بناء دولة حديثة من جهة ثالثة.
إن التوقف عند إقرار لجنة غير تمثيلية وغير مطلعة على التنوع السوري، ليست مسألة تفصيلية بلا معنى، فمن بداهة الأمور أن تضم لجنة التحضير للمؤتمر ممثلين عن المحافظات السورية، لديهم اطلاع كافٍ بالقوى السياسية والمدنية والشخصيات العامة ذات الرمزية في محيطها الاجتماعي، وأصحاب الكفاءات من قانونيين واقتصاديين ومثقفين، يقومون هم بوضع لوائح المشاركين من محافظاتهم، وألا يترك هذا الأمر لجهات لا أحد يعرفها، وهو ما ظهر جلياً من خلال الارتباك في عملية توزيع الدعوات.
إن مؤتمراً كهذا يحتاج إلى وجود تقسيم لأهم القضايا، واختيار مشاركين من المعنيين بهذه القضايا لمناقشتها، إذ أنه من المستغرب مثلاً أن تناقش قضايا تمسّ شكل الحكم والدستور من دون تمثيل جدي للقوى السياسية الكردية، وغيرها من القوى التي تمثّل سوريين من قوميات أخرى، فالكل يعلم أن الإدارة الذاتية تتبنى طرح اللامركزية، وهناك خلاف من قوى عديدة معها على طبيعة هذه “اللامركزية”، ولهذا فإن دعوتها ضروة وطنية وواقعية، أما استبعادها فهو أمر مستغرب وغير منطقي.
إن حواراً وطنياً بهذا الحجم والأهمية من حيث القضايا أو من حيث الضرورة التاريخية، كان من الأفضل أن يبدأ من المحافظات، وأن تجري الحوارات ضمن مهل زمنية محددة، ومن ثم يجتمع المشاركون، من ممثلي المحافظات في المؤتمر العام في دمشق، وأن ترافق هذه العملية قنوات إعلامية محلية، تضع السوريين في أجواء الحوار، لخلق بيئة سياسية عامة، تعيد ربط السوريين بالشأن العام، وتعيد لهم دورهم في صناعة مستقبل بلادهم.
إذاً، كيف يمكن فهم هذا الاستعجال و”السلق” في إنجاز المؤتمر؟
إن استباق اللجنة التحضيرية للمؤتمر بتحديد وظيفته بأنه منصة لتقديم توصيات للقيادة، يوضح بشكل كبير فهم القيادة للمؤتمر ودوره، ويحصر مهمته بإضفاء الشرعية “الوطنية” على الحكم الجديد، من دون أن تكون القيادة ملزمة تجاه الشعب بتنفيذ أي من التوصيات، أو حتى اتخاذ قرارات بشأن القضايا التي تضمنها البيان الختامي بحسب تفسير القيادة لها، كما أن إجراء المؤتمر بالطريقة التي حدث بها، جعل كل الأمور تحت سيطرة الجهة الداعية، أي القيادة، بينما إنشاء آلية تمثيلية ديمقراطية للمؤتمر، سيجعل بالضرورة زمام الأمور، وبشكل كبير، في يد مندوبي المحافظات، وبالتالي، لا يمكن توقّع ما سينجم عنه.
في الوقت الذي لم تتوقف فيه السلطة الجديدة وإعلامييها ومن يدور في فلكها بمطالبة السوريين بالتروي وعدم اتخاذ مواقف مستعجلة من إجراءات الإدارة، والترويج لمقولة “القادم أفضل”، فإن المؤتمر الوطني، كان بإمكانه أن يكون العملية التي تطمئن كل السوريين بأن القادم فعلاً أفضل، وأن يدفعهم إلى تحمل مسؤوليتهم الوطنية، لكن، وككل مرة، منذ توليها الحكم، تكون السلطة هي المستعجلة في اتخاذ الإجراءات، وإغلاق ملفات حساسية ومصيرية، والتعاطي معها من دون مراعاة أهميتها الوطنية والتاريخية.
تواجه بلادنا اليوم مأزق وجودي، ينطوي على معضلات عديدة، وقضايا خلافية شائكة، واقتصاد شبه غائب، وفقر معمم، وعدم احتكار السلطة للسلاح، ومجتمع دولي يراقب، ومع ذلك، فإن السلطة الجديدة، بوصفها اليوم من “يحكم ويقرّر”، فهي المسؤولة بالدرجة الأولى عن هذا المستوى من المعالجة، الذي لا يرقى إلى مصاف التحديات الكبرى، وكان بالإمكان على الأقل العمل بوحي من عمل الأباء المؤسسين للدولة السورية، للوصول إلى توافقات وطنية بالحد الأعلى حول كل القضايا التي تؤسس لدولتهم ونظام حكمها وجيشها واقتصادها وحرياتها.
أما البيان الختامي للمؤتمر، وبغض النظر عما تضمنه من إيجابيات على شكل صيغ عامة، حمالة أوجه من ناحية التفسير، إلا أنه هرب كما فعل مسؤولو الحكومة الجديدة، ورئيس البلاد الانتقالي، من ذكر الديمقراطية والتعددية السياسية، وكأنهما اسمين لمرضي عضال، وليسا البوابة التي تدخل منها الدول والشعوب اليوم إلى عصر سياسي خالٍ من الاستبداد والاستعباد.
إن ما يمكن استنتاجه من هذه الطريقة التي عاملت فيها السلطة الجديدة مؤتمر الحوار الوطني، هو أنه مؤتمر وأد الحوار الوطني قبل ولادته.