رأي

 كيف نبني بوصلتنا تجاه السلطة الجديدة في سوريا؟

حسام ميرو

بعد مرور أكثر من مئة يوم على الحكم الجديد في سوريا، لا زالت معظم القوى السياسية، ومعها كثر من المثقفين المحسوبين على التيار الوطني الديمقراطي، يمارسون نوعاً من البراغماتية تجاه كلّ ما يصدر عن هذا الحكم، بل أحياناً هناك إشادة بهذه الخطوة أو تلك، مع تشجيع الإدارة على مزيد من الخطوات نحو ما يسمونه “التشاركية”.

تبدو بوصلة هؤلاء متجهة نحو الضفة الخاطئة من التاريخ والسياسة، إذا لم نقل إن بعض المواقف تفصح عن انتهازية مكشوفة ورخيصة، ليست جديدة على الوسطين الثقافي والسياسي السوريين، إذ لطالما كانت حاضرة.

تبرّر هذه القوى ومن لفّ لفيفها مواقفها البراغماتية بالقول إن السلطة الحاكمة الآن، وبغضّ النظر عن ماضيها، وربما بغضّ النظر عن الاتفاق الإقليمي والدولي الذي أتى بها للحكم، هي الآن من يحكم البلاد، وهي تحظى بشعبية واسعة داخلياً، وأن الانتقال سريعاً إلى ضفة المعارضة لها، لا يصب في مصلحة البلاد، ولا القوى السياسية.

بالطبع إن مثل هكذا موقف قاصر سياسياً، سيجد لدى هذه القوى تبريره: الخوف على الدولة، وضرورة تحقيق ضبط السلاح، والسلم الأهلي، وتنشيط الاقتصاد والمعيشة المتدهورين.

بدأت أولى حلقات هذا الموقف البراغماتي مع إصدار مثقفين سوريين (بعضهم يتمتع بسمعة مرموقة داخل البلاد وخارجها) وثيقة حول سوريا المستقبل، لم تتضمّن أي طرح صريح لضرورة أن يكون النظام السياسي الجديد ديمقراطياً، وبدا أنهم يتعاملون مع مصطلح الديمقراطية بنوع من التقية، لتجنب استثارة حكام دمشق الجدد، وكانوا بذلك يقومون برمي تاريخهم الطويل في سلة مهملات التاريخ، خصوصاً أن الحكام الجدد لا يرونهم ولا يرون غيرهم، وليسوا معنيين بأي وثائق من هذا النوع.

في “المؤتمر الوطني”، حضر كثر من ممثلي تيارات سياسية باسمهم، وليس باعتبارهم ممثلين لقواهم، ومن السخرية بمكان أن معظم من حضر من هؤلاء “الديمقراطيين” لم يخبر أحداً خارج منظومة حزبه أو تحالفه بأنه مدعو للمؤتمر، وكأن الدعوة بحدّ ذاتها اعتراف من السلطة بهم ومكسب يجب تحويطه بخرزة زرقاء، تجنباً لحسد الحاسدين.

 إن الخطوة الأولى التي كان لها أن تشكل مسار سوريا الجديدة من دون استبداد أية سلطة جديدة، كانت المؤتمر الوطني، الذي ينبغي أن يتأسّس من خلاله العقد الاجتماعي الجديد (الدستور)، وهو ما تعرفه القوى السياسية تمام المعرفة، فهذا المؤتمر كان يمكن أن يكون مساراً تفاوضياً قانونياً لبناء دستور حديث ديمقراطي، وأيضاً يضمن مستوى عالياً من الحريات والحقوق للجميع، ومع ذلك فقد ذهب المدعوون من التيار الديمقراطي، وكأن كلّ معرفتهم بما ينبغي أن يكون، وما كانوا قد صدّروا به بيانات ووثائق، ليس لها أي قيمة لديهم، وأيضاً ليس لها أي احترام.

الجيش والأمن:

بعد انهيار المؤسستين العسكرية والأمنية، وحلّهما رسمياً، بقي لدينا زمرة من الفصائل، عصبها الرئيس “هيئة تحرير الشام”، والتي زعم الرئيس الانتقالي أنها حلّت جميعاً ضمن الجيش الجديد، لكن هذه الخطوة، وعند تفحصها، فهي لا تصمد أمام أي تحليل بسيط، فإعادة هيكلة الجيش تتطلّب مليارات الدولارات، غير المتوفرة، وبحاجة لخبرات عسكرية مرموقة واحترافية، بينما قام الرئيس الانتقالي بوضع عدد من القياديين الأجانب في مناصب عليا في الجيش، واستلم “أبو عمشة” (هذا لقيه) قيادة الفرقة 25 في القطاع الأوسط في حماة، وما من داع لذكر شهاداته وخبراته العسكرية، في الوقت الذي استبعد فيه ضباط منشقون من عملية إعادة بناء الجيش، واستبعد ضباط سابقون لم يتورطوا بالدم.

إذا كانت شرعية أي نظام سياسي تبنى من خلال معايير محددة، فإن أحد تلك المعايير هو احتكار الدولة للسلاح، لكن كيف يمكن للدولة أن تحتكر السلاح؟

في سوريا أطراف عديدة تمتلك السلاح، بما فيه السلاح الثقيل، وتعبر بعض تلك الأطراف عن مطالب محدّدة، كما في حالتي “قسد” وفصائل السويداء وحوران، وبالتالي، فإن احتكار السلا ح غير ممكن قبل أن يكون هناك عقد وطني رضائي/ مصلحي، يجعل من هذه الأطراف مشاركة في صناعة القرار، ليس بوصفها فقط قوى عسكرية، وإنما كممثلة لمطالب ينبغي التفاوض عليها، والحصول على مكاسب، ويمكن ببساطة العودة إلى اتفاق الطائف  عام 1989، الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، مع كل ما فيه من نقص، لكنه أوجد مصلحة حينها لجميع الأطراف بالمشاركة في الحكم، وتسليم السلاح، ما عدا “حزب الله”، وذلك بتوافق عربي وإقليمي.

ما حدث في الساحل السوري، وقيل إنه هجوم من قبل “فلول النظام” على قوات الأمن العام، وتطور إلى نفير جهادي في بعض المساجد، تحوّل خلال ساعات إلى مذبحة على الهوية، كان أغلب ضحاياها من العلويين، يثبت ويؤكد أمور عديدة:

1-إن الجيش الذي ضم الفصائل المنحلة غير موجود من الناحية الفعلية.

2-إن الفصائل قامت بعمل طائفي لا يمتّ لمفهوم الجيش الوطني بأية صلة.

3-في حال كان أمر هذه المذابح صادر عن أعلى سلطة، أي الرئيس بوصفه القائد العام للجيش والقوات المسلحة فهذه خطيئة لا تغتفر، وإذا لم يكن الأمر صادراً منه، فتلك خطيئة أكبر، وتؤكد أنه ليس الرئيس الفعلي، وأنه لا يمون على الفصائل، وفي كلتا الحالتين هو مسؤول بحكم منصبه عن هذه المجازر، لأن من ارتكبها قوات تابعة (أو يفترض أنها تابعة) للجيش.

من الناحية الأمنية، استبدلت السلطة الجديدة بعناصرها العناصر القديمة، والعناصر الجديدة غير مؤهلة تعليمياً ولا شرطياً لتقوم بمهامها، وقد أشار مواطنون كثر إلى أن بعض من يقومون على عمل المخافر لا يعرفون طريقة كتابة محضر بحادثة سرقة، أضف لذلك أنهم يفتقرون إلى معرفة الواقع الاجتماعي الذين يعملون في نطاقه.

الوضع الاقتصادي:

تحتاج سوريا، بحسب تقديرات متباينة، إلى وسطي مالي قدره مئتي مليار دولار، لإعادة الإعمار واستعادة البنى التحتية والخدمات، ومن الواضح بعد مرور أكثر من مئة يوم على الحكم الجديد أن الزيارات المكوكية لوزير الخارجية أسعد الشيباني، كانت بلا نتائج مثمرة، ويمكن تصنيفها ضمن بروتوكلات التعارف، وليس هناك ترحيب جدي بإعطاء شك على بياض لهذه السلطة، بل تقديم مطالب لها، ودعوتها لتنفيذها، مع معرفة مسبقة لدى أجهزة الاستخبارات ووزارات الخارجية بأن السلطة الجديدة غير قادرة على تنفيذها.

90% من السوريين تحت خطّ الفقر، وقد ازدادت أوضاعهم بؤساً، بعد تسريح حوالي 500 ألف موظفاً من الخدمة، واعتماد آلية حبس النقد في البنك المركزي، ما يحرم السوق من سيولة الحد الأدنى المطلوبة لاستمرار دورته، ومن غير الواضح حتى الآن كيف ستتعامل السلطة الجديدة مع هذه الأوضاع الكارثية، وأيضاً كيف ستدفع رواتب عناصرها ومنتسبيها، أم ستترك أمرهم للغنائم على حساب أمن المجتمع؟

الاعتراف الخارجي:

ما شهدناه من بوادر اعتراف إقليمي ودولي بالسلطة الجديدة، لا يعني ولا بأي شكل من الأشكال تجاهل الدول طبيعة وخلفية الجهة التي يتعاملون معها، وهذا ما يرد في الكثير من التصريحات الغربية، كما أن سوريا بحسب فهم عدد من الدول الفاعلة هي “صداع رأس”، ومستنقع كبير، وأن الفصائل الحاكمة هي قيد الاختبار، وقد أتى الاختبار سريعاً في الساحل السوري، لذلك فإنه من غير الواقعي، خصوصاً أوروبا المشغولة بأوضاعها الاقتصادية وتداعيات الحرب الأوكرانية وصعود اليمين، أن تبادر إلى ضخ أموال في ساحة ليست مهمة لها إلا من بعض الجوانب الأمنية، وتحديداً مسألتي الجهاديين واللجوء.

لقد عبّرت إسرائيل غير مرة، وعلى لسان أكثر من مسؤول كبير، أنها تنظر إلى القائمين على السلطة في دمشق بأنهم “منظمة جهادية إرهابية”، ولم تتوان تل أبيب منذ الأيام الأخيرة قبل سقوط الأسد ولغاية الآن عن التدخل العسكري المباشر، وقد أنهت عبر ضرباتها الجوية الجزء الأكبر من المخزون العسكري السوري، كما توغلت في المنطقة العازلة، التي كانت مشمولة باتفاق الهدنة لعام 1974، بالإضافة إلى تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي التي هدّد فيها السلطة الجديدة في حال تعرّضها لمحافظة السويداء و”المكون الدرزي”.

وإذا كانت إسرائيل بعد السابع من أكتوبر 2023، قد حوّلت عمليتها ضد تنظيم “حماس” من رد على عمليتها ضد غلاف غزة، إلى حرب اجتثاث للتنظيم، وتوجيه ضربة تكسر فيها “ظهر” الحزب، وتمنعه من استعادة مكانته العسكرية، وإنهاء نفوذ إيران في سوريا، إلا أن تل أبيب لا تريد استبدال نفوذ إيراني فاعل في سوريا بآخر تركي، مزود بأحلام إمبراطورية، وخطاب ديني.

بعض الدول العربية الفاعلة، تشاطر إسرائيل المخاوف ذاتها من سلطة دمشق وحليفها التركي، وكانت قبل سقوط نظام بشار الأسد تعمل على إلى إعادة تأهيله، في حال استطاع التخلّص من النفوذ الإيراني، وهي أيضاً، ليست راغبة في رؤية سلطة دينية تحكم دمشق، تتحدث بمرجعية الخطاب الديني، وباسم الأمة الإسلامية.

المكوّنات السورية:

في الوقت الذي كانت فيه الدولة السورية تتآكل شيئاً فشيئاً منذ عام 2011، وصعود قوى مسلحة راديكالية، تمكنت من القضاء على القوى المسلحة ذات الطبيعة الوطنية، بدا أن السوريين يعيدون تعريف أنفسهم من خلال انتمائاتهم الدينية والمذهبية، مع وجود استثناءات لا تخل بالقاعدة العامة بل تؤكدها.

الأقليات الدينية والمذهبية السورية لديها مخاوف على مستقبلها، انطلاقاً من الخلفية السلفية الجهادية للسلطة الحاكمة، وصولاً إلى أحداث الساحل الأخيرة التي زادت من تأكيد هذه المخاوف، مروراً بمحطة الإعلان الدستوري الذي تجاهل التنوع السوري القومي والديني والسياسي.

هناك قسم كبير من السنة، يرون أن الخلفية السلفية للسلطة الحاكمة تتناقض مع ما يطلق عليه “الإسلام السوري”، بطبيعته المنفتحة والوسطية، والذي تعايش على الدوام مع جميع المكوّنات الأخرى، كما أن هذا القسم الكبير من السنة، لا يعرّف نفسه دينياً، وإنما وطنياً ومدنياً، ويعتبر أن السلطة الجديدة لن تكون قادرة على إعادة إعمار سوريا والعمل على تطويرها وتقدمها، وأنها ستنتج بيئة طاردة للاستثمارات.

توجيه البوصلة:

إن ما سمعناه على لسان أصوات عديدة حول ضرورة إعطاء السلطة الجديدة الوقت الكافي لظهور نتائج عملها، خصوصاً أنها تواجه أوضاعاً معقدة وصعبة على الصعد كافة، هو رأي ينبغي إهماله كلياً، فهو كلام عمومي رغائبي، والأهم منذ لك أنه لا يأخذ بالحسبان أن الأوضاع السورية المعقدة ستزداد تعقيداً، وقد بدأت تتعقّد فعلاً، بسبب طبيعة هذه السلطة.

إذا كانت السلطة الجديدة اليوم مساهم رئيس في تكريس الانقسام السوري، فإن عدم تأييدها هو موقف وطني، وعدم إعطائها الوقت هو موقف وطني، انطلاقاً من مفهوم الوطنية الذي يقوم على مستوى الرضا العام عن أي سلطة، وعلى مستوى ضرورة تعالي السلطة أساساً عن الانقسامات المجتمعية أياً كانت، وألا تكون طرفاً فيها، بل طرف مناط به الإسهام في معالجتها.

وإذا كان نفص الاعتراف الخارجي، كما هو واضح، سيبقى قائماً ومعيقاً، لإمكانية رفع العقوبات، فإن الموقف الوطني هو عدم تأييد هذه السلطة، فاستمرارها هو استمرار لحالة الاستنقاع القائمة.

وإذا كان النموذج الذي تعمل عليه السلطة الجديدة هو نموذج الدولة الدينية، وهو ما بات واضحاً، ابتداءً من عملية تغيير المناهج، والسماح للدعويين باستباحة المدن والدعوة الدينية في بلد لا تكاد فيه الناس تجد ما تأكله، ويعاني من انقسامات، وإعلان النفير العام من بعض المساجد، والهتافات الدينية لمجموعات ترعاها السلطة في وجه الوقفات الاحتجاجية المطلبية كما جرى في اعتصامي دمشق وطرطوس، وغيرها الكثير، مدعومة بإعلان دستوري، وصلاحيات شبه مطلقة للرئيس، فإن هذا التوجه لإقامة مثل هكذا دولة هو وصفة مثالية لتقسيم البلاد، وبالتالي فإن الموقفين الوطني والديمقراطي، يقتضيان الوقوف ضد السلطة الحاكمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق