رأي

خيارات مسيحيي سوريا تحت حكم السلطة السلفية؟  

حسام ميرو

على خلاف الأقليات الدينية الأخرى، فإن مسيحيي سوريا لا يتجمعون في مكان جغرافي محدد، فالعلويون في الساحل، والدروز في الجنوب، وصحنايا وجرمانا، بينما يعيش المسيحيون في كل المدن السورية، وآثروا تاريخياً، ما عدا بعض المثقفين، عدم الانخراط الكثيف في الأحزاب السياسية، ولم يكن التطوّع في سلك الجيش والأمن كبيراً، فمعظم المسيحيين فضلوا التعليم والمهن والتجارة، والعائلات الأكثر فقراً، خصوصاً في الريف السوري، كان بعض أبنائها يتطوعون في سلك الشرطة.

منذ ستينيات القرن الماضي، وبعد التأميم، خرجت عائلات غنية مسيحية من سوريا، ثم تبعتها موجة الثمانينيات من القرن الماضي نحو أوروبا، ألمانيا والسويد بشكل خاص.

ما بعد الثورة، تراجع العدد الكلي للمسيحيين، وغالبية من بقي منهم في سوريا هم من الفئة المتوسطة أو الفقيرة، وكان خيار بعض الشباب الانتقال إلى دبي أو أربيل من أجل العمل، على أمل أن تهدأ الأوضاع في البلاد.

 لم ينخرط المسيحيون ككتلة في الثورة، بل بعض الأفراد ممن كانوا أساساً في أحزاب معارضة، مثل حزب العمل الشيوعي، والحزب الشيوعي- المكتب السياسي، وحزب العمال الثوري، أو ممن عملوا في المجال الحقوقي، وكان بعض هؤلاء في نظر من يتابع الشؤون السياسية من المسيحيين مجرد تابعين للإخوان، أو أنهم واجهات لهذا التنظيم الإسلامي السياسي، خصوصاً مع تأييد أحد الوجوه البارزة (جورج صبرا) لما كان يصدر عن المجلس الإسلامي السوري، الذي تشكل في اسطنبول، وهو واجهة إخوانية رديفة.

مع سقوط النظام، سارعت الكثير من العائلات المسيحية إلى شراء “علم الثورة” ووضعه في صالونات بيوتهم أو على الشرفات،  وهذا السلوك الذي ينطوي على عدد من التأويلات، يحتاج إلى بحث خاص، لكن يمكن القول إنه ينطوي على الخوف من السلطة الجديدة، خصوصاً أن الجهة التي وصلت إلى الحكم هي “هيئة تحرير الشام” السلفية، والمصنفة إرهابية، والتي تضم آلاف المقاتلين من التركستان والإيغور والمصريين والجزائريين وغيرهم.  

خلال الفترة الماضية، تواصلت مع عدد من الأشخاص الذين يمكن أن تكون لديهم أرقام إحصائية شبه دقيقة حول عدد المسيحيين في سوريا، وكان واضحاً أن هناك فرق بين من هم مسجلون في قيود النفوس كمسيحيين وبين عدد الموجودين فعلياً، لكن وبشكل تقريبي (صحيح نسبياً لكنه يحتاج إلى دقة أكبر)، هم اليوم بضعة مئات من الآلاف، موزعون كالآتي: مناطق شمال شرق سوريا، تحديداً في القامشلي والحسكة، وحلب، ودمشق (خصوصاً في جرمانا)، وأرياف حمص وحماة، ودمشق، وحوران، والسويداء.

مع سقوط نظام الأسد، التقى عدد من رجال الدين بأحمد الشرع، وهو لقاء مفيد براغماتياً للطرفين، فهم يعلمون أنه ضمن موازين القوى، ينبغي عليهم الوقوف إلى جانب السلطة، نظراً لوضعهم الهش، وثانياً لمعرفتهم بخلفية السلطة، وانطلاقاً مما يعدّونه حفاظاً على المسيحيين، وكذلك، فإن السلطة أرادات توجيه رسائل للخارج بشكل رئيسي أنها تقبل بالتنوع الديني والطائفي.

لكن هذه اللقطة التذكارية البراغماتية التي جمعت بين رجالات دين مسيحيين وبين أحمد الشرع، لم يستمر مفعولها طويلاً، فإذا استثنينا الإشارات الأولى، والتي كان يمكن ألا تكون لها أية أهمية تذكر، أي حرق شجرة عيد الميلاد في السقيلبية، ولاحقاً سيارات الدعوة في باب توما، والطبالة والدويلعة، فإن الجرائم التي ارتكبتها فصائل السلطة في مدن الساحل بحق مدنيين عزل من الطائفة العلوية، كان لها صدى في أوساط المسيحيين، وكذلك الإعلان الدستوري، فقد بدأت تطرح أسئلة عديدة لدى المسيحيين حول مستقبلهم في البلاد، وهي أسئلة تطرح في بيئة أمنية غير مستقرة، يستهدف فيها مكون طائفي محدد، وقد أتت أخيراً أحداث جرمانا وصحنايا، وما رافقها من تجييش طائفي، كما حدث في جامعة حمص، أو في مظاهرتي حماة وجبلة، والشباب في هذه الأخيرة، طالبوا “الجولاني” (هكذا تماماً) بأن “يقطع الرؤوس”، وهم لم يخاطبونه باسم الرئيس، أو أحمد الشرع، بل “الجولاني”.

إذا عدنا قليلاً إلى العراق ما بعد 2003، سنجد أن المسيحيين في العراق انخفضت نسبتهم من 4% إلى أقل من 1%، خصوصاً بعد احتجاز تنظيم الدولة “دا/عش” لعدد من الرهبان في كنيسة سيدة النجاة في بغداد، في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2010، ومن ثم إعدامهم 58 شخصاً، وجرح العشرات،  من أبناء طائفة السريان الكاثوليك.

في ضوء الأوضاع الراهنة، فإن ما لا يتم رصده هو أن ما تبقى من مسيحيي سوريا، فإن قسماً كبيراً منهم اليوم، بدأ فعلياً، ومن دون ضجة، أي كما يقال بالدارجة: على الساكت، يقوم ببيع ما لديه من ممتلكات، ووضع خطط للهجرة، حتى أن بعضهم بدأ يسأل عن كيفية السفر إلى رواندا، البلد الأفريقي الذي شهد حرباً أهلية طاحنة، ثم تخطاها إلى مرحلة استقرار، حيث توصف تجربة رواندا إلى حدّ معقول نسبياً بأنها كانت ناجحة.

في غياب الصحافة السورية الاستقصائية الحرة، وعودة أدوات البروباغندا للعمل لتلميع صورة السلطة الجديدة، لا يمكن تحديد نسبة المؤيدين الحاليين من المسيحيين للسلطة الجديدة، لكن، يمكن طرح أسئلة عديدة، تجعل الوصول إلى نسبة تقريبية:

1- كيف يتصوّر المسيحيون حياتهم ونمط معيشتهم ومكانتهم في دولة تحكمها سلطة سلفية جهادية؟

2- كيف يتصوّر المسيحيون مصيريهم بعد جرائم الساحل وأحداث صحنايا وجرمانا؟

3- هل نسي المسيحيون، خصوصاً رجالات الدين، ومن لديهم أرشيف تاريخ المسيحيين، أحداث العاشر من يوليو/ تموز عام 1860، حيث تمت مهاجمة الحارات المسيحية في دمشق بالعصي والسيوف والخناجر، حيث قتل على الأقل خمسة آلاف مسيحي، واغتصبت حوالي 400 امرأة، ويمكن بهذا الصدد مراجعة كتاب “أحداث دمشق مذبحة 1860” للباحث البريطاني يوجين روغان، الصادر في العام الماضي 2024.

4- هل يقبل المسيحيون أن يعودوا “أهل ذمة” كما كانوا في العهد العثماني؟

هذا الأسئلة، التي لا تطرح اليوم في الإعلام السوري، ولا تأخذ مساحتها من النقاش العام، ليست ضرورية فقط من أجل المسيحيين ومستقبلهم، بل هي ضرورية للنقاش حول أي مستقبل يُراد لسوريا، وكيف يمكن للسوريين أن يتجاوزا الواقع الحالي، وهل بقاء السلطة الحالية مفيد للبلاد أم مدمّر لما تبقى من نسيجها الاجتماعي، الذي يبدو اليوم مهترئاً إلى أبعد حدّ؟

هذه الأسئلة، لم يكن من الوارد أن تكون مطروحة في الأساس، لولا السياق والنمط الذي تمظهرت فيه السلطة خلال الأشهر الأربعة الماضية، والتي عوضاً من قيامها بتحسّس مخاطر الطائفية في المجتمع السوري، وإظهار سلوك مواطني، وبناء جيش وطني متنوع غير طائفي، فإنها مضت باتجاه يدفع إلى تكريس العلاقات الطائفية في المجتمع السوري، وهو ما قد تناوله عدد من الباحثين والكتاب السوريين مؤخرا، في رصدهم لخيار السلطة الممنهج في رعاية السلوط الطائفي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق