رأي

ريف – مدينة ثنائية زائفة في الحالة السورية.. لماذا؟

حسام ميرو

كانعكاس صريح وفاضح لما آلت إليه الحالة السورية من كارثية، تبرز ثنائية ريف/ مدينة بين حين وآخر، كما ثنائيات أخرى، بلباس أيديولوجي، بعيداً عن أي تحليل اجتماعي تاريخي، بل أنه بمجرد اعتبارها ثنائية على غرار ثنائيات لها دلالتها مثل جهل/تنوير، أو نقل/عقل، استبداد/ديمقراطية، وغيرها من الثنائيات ذات الوزن الدلالي معرفياً وسياسياً، فهو يؤشر في حالتنا السورية إلى أمور عديدة، ليس أقلها غياب البحث المعرفي والجدي في قضايانا الوطنية والمواطنية.

الثنائية، وكما يجري طرحها في السياق السوري لدى عديدين، تتعاطى مع المدينة بمنظور فيه الكثير من عدم الإدراك لكينونة المدينة في سياقها الحديث، وارتباطها العضوي بمفهوم المواطنة، حتى أن كلمة (citizenship) مشتقة من(city)، والمواطنة كمفهوم نمت في سياق التنوير الأوروبي، حيث شكّلت البرجوازية المدينية قاطرة التحديث والحداثة، في تحول كبير ضد السلطة الدينية على وجه الخصوص، وفي وجه السلطات الملكية، أي في وجه كل سلطة مطلقة، لمصلحة العقلانية والنسبية والليبرالية.

المدن الكبرى والعواصم العربية، ومنها دمشق وحلب، عانت انتكاسات كبرى في صيرورتها، وهي انتكاسات لازمت مشروع التنوير العربي عموماً في غير بلد من بلدان المنطقة، خصوصاً في مصر والعراق وسوريا، وهنا لا بد من التوقف عند بعض أهم اللحظات الفاصلة التي شكلت نوعاً من الكبح لتطور المدينة والمدنيّة، مثل:

1- هشاشة الطبقة المدينية (البرجوازية) بعد الاستقلال، وعدم قدرتها على بلورة تيارات سياسية مطابقة لحاجات مجتمعها وعصرها، مع أنها أدت أدواراً مهمة في النضال ضد الانتدابات.

2- بقيت الطبقة المدينيّة على الرغم من نمو ميولها العقلانية، بشكل معقول نسبياً، في الاقتصاد (وهو ما أشار إليه المفكر الراحل ياسين الحافظ)، بقيت محافظة وتقليدية فكرياً واجتماعياً، وانتهازية سياسياً.

3- بقيت مظاهر العيش لدى أغلب الطبقات المدينية، من مأكل وملبس وعلاقات، حالة من حالات التميز الطبقي، ومفصولة عن أي دور سياسي أو اجتماعي تحديثي.

4- قامت جمهورية الضباط (طبقة العسكر)، مدفوعة بأيديولوجيا قومية/ اشتراكية بنسف بعض التراكمات المدينيّة السابقة، من دون أن يكون لديها أي مشروع جدي للمواطنة، بل مشروع سلطة، مجرد سلطة، معزولة عن سياق دور تاريخي فاعل في بناء مقومات المواطنة، بل لعبت على كل التناقضات الموجودة في الهويات الفرعية، مثل الدين والطائفة والمنطقة والعشيرة والعائلة.

5- لم تتمكن المعارضات اليسارية عموماً من جذب أعداد كافية من أبناء المدن، فلم تتمكن من إحداث تأثير حقيقي، يفسح المجال أمام تطور نسق معارض يساري/ ليبرالي، أو ما يسمى “الديمقراطية الاجتماعية”، مع ضرورة الإشارة إلى أنه لا يمكن تحميل اليسار فقط وحده مسؤولية بهذا الحجم التاريخي.

أما في سياق الثورة السورية، وما بعدها، يجب الأخذ بالحسبان أنها أتت بعد أن كانت التشوهات قد أصابت الدولة والمؤسسات والسياسة والمفاهيم، وبناءً عليه، فإن معنى المدينة والمدنيّة بمعناها الحديث لم يكن موجوداً، فكل العلاقات المؤسساتية والاجتماعية كانت مخترقة بعشرات التشوّهات، وبالتالي فإن السكن والعيش في المدينة السورية قد أحدث بعض التحولات على أنماط العلاقات، باتجاه براغماتي أكثر مما هو قائم في الريف، لكن تلك التحولات بقيت تحولات في الدرجة وليس في النوع.

إنّ تهميش النظام السياسي لمواطنيه هو تهميش عام طال كل الجغرافيا السورية، وهو تهميش وكبح لأي تطور اقتصادي وسياسي وقيمي، ففي ظل غياب الحياة السياسية الحرة والعلنية، بقوة الدستور والقانون، وفي ظل غياب فصل السلطات الثلاث (التشريعية، والقانونية، والتنفيذية)، يغدو الحديث عن المدينة مجرداً من أي معاني المدينية الحقيقية.

إنّ أي تحليل للأوضاع الراهنة، انطلاقاً من ثنائية ريف/ مدينة هو تحليل أيديولوجي، وهو سليل شعور زائف بالتفوّق الطبقي، من دون أن يعكس أي تفوّق بالقيم، بل على العكس من ذلك، يعكس قصوراً في الوعي والمعرفة.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق