إصداراتكتب

في مواجهة الموت والنسيان..”إنها تدور” لراشد عيسى توثق سينما جيل الشجاعة

حسام ميرو

-1-
كانت لفتة كريمة من الصديق الصحفي راشد عيسى أن يرسل لي نسخة ورقية من كتابيه “إنها تدور”، و”سوريو الباصات الخضر”، وهذه اللفتة لها أكثر من معنى في حالتنا السورية، فأن تصلك نسخة ورقية مرسلة من بلد إلى آخر، أو لنقل من ضواحي باريس إلى مدينة ألمانية صغيرة، هي مسألة تدخل في باب العطايا الكبرى، بالنسبة للاجئين لم يتخلصا بعد من سؤال: هل نحن حقاً لاجئين؟
أول ما فعلته حين فتحت صندوق البريد ووجدت نسختي الكتابين هو تصوير نفسي مع الكتابين، كأنني أوثق لحظة تاريخية، وهي بالفعل كذلك، فما توقعت أن أحظى بمثل هذه الهدية وأنا في بلدة نائية على الحدود الألمانية الهولندية، وعادت بي الذاكرة إلى اللقاء الأول مع راشد في كافتيريا بجانب إدارة الهجرة والجوازات في البرامكة، لكنني نسيت اسمها، وأخبرني راشد لاحقاً أن اسمها “المحطة”، وكانت بالفعل كذلك، محطة لسائقي الباصات والطلاب والعشاق، ومحطة من محطات حياة دمشق التي أصبحت ورائنا.
-2-
في كتابه “إنها تدور” يبدو راشد، ليس صحفياً فقط، وإنما ابن سينما، ربما لم يتسنَ له أن يقف خلف كاميرا، لكنه ولأسباب كثيرة هو سينمائي، في رأسه ما لا يحصى من المشاهد التي يمكن له أن يعيد تركيبها من زوايا عديدة، مشاهد ممتدة من السبينة والحجر الأسود ومخيم اليرموك والمعهد العالي للفنون المسرحية وأزقة دمشق، ومن ثم رحلة اللجوء التي تعيد تسميته من جديد كلاجئ فلسطيني سوري.
في تمهيده للكتاب يضعنا راشد أمام ماهية الكتاب نفسه، ومن دون مواربة، فهو الصحفي الذي يدرك أن الكتابة الصحفية لا تحتمل الغموض، فيقول إن مقالات هذا الكتاب “ليست عن السينما تماماً، بقدر ما هي عن الجدران، جدران العسكر والاحتلال والرقابة بكافة أشكالها”، وسيأخذنا عبر أكثر من خمسين مقالاً في رحلة مؤلمة لحال البلاد عبر كتابته عن أهم ما أنتج من أفلام وثائقية وغيرها عن الأحوال السورية الكثيرة، وما رافقها من ظواهر مأساوية، رصدتها كاميرات، في معظمها غير احترافية، وشبان لم يدرسوا أياً من فنون الإعلام والسينما، ووضعتنا في مواجهة الموت، لكن أيضاً في مواجهة الشجاعة، ولا عجب أن يضع راشد عنواناً فرعياً في مقاله الأول هو “جيل الشجاعة”.
تغطي مقالات الكتاب خارطتين يمضيان مع بعضهما البعض، خارطة تحولات سوريا، وخصوصاً بعد 2011، وخارطة المواجهة الفنية والمدنية في آن، كفعل متعدد الأوجه، أمام فداحة ما يحدث ولا معقوليته، خصوصاً عندما تصبح الكاميرا أداة إدانة للطاغية وأدواته، وأداة وجود، خصوصاً حين يكون الموت حاضراً بمعناه الحقيقي وليس المجازي، كما في الأعمال التي صورت في أماكن شهدت قصفاً ومعارك، ومنها فيلم “لسه عم تسجل”، والذي صوّر في الغوطة “ما زالت الكاميرا تدور إذاً، على الرغم من طلقات القناص، وعلى الرغم من الحصار الرهيب. لا شك أن صنّاع الفيلم أرادوا تمجيد هذا الفن ودوره، فلولا الكاميرا لما استطاعت قضية السوريين أن تكون على شاشات ومنابر العالم”.
أيضاً، راشد عيسى في كتابه ” إنها تدور” أراد هو الآخر أن يمجد فن السينما، وأن يكون شاهداً على ما أنتجته السينما الوثائقية السورية من أفلام ستبقى شاهدة على ما ابتلى به السوريون من ظلم وقتل وتهجير، وشاهدة على جيل من المبدعين الذين صنعتهم الشجاعة، وليس بكثير أن نقول إن كتاب “إنها تدور” هو أيضاً سينما وثائقية صنعتها كاميرا راشد الصحفية وخبرته وانحيازه الأخلاقي.

……………………………………………………………………………………………………..
كتاب “إنها تدور” صدر في عام 2020، عن دار موزاييك للدراسات والنشر”، في 260 صفحة من القطع المتوسط، ولوحة الغلاف لقطة من الفيلم الوثائقي السوري “لسه عم تسجل”.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق