

حسام ميرو
كاتب وصحفي سوري
في أوائل العشرينات من عمري، وبسبب انتمائي لحزب سياسي آنذاك (العمال الثوري العربي)، قرأت معظم ما كتبه المفكر المغربي عبد الله العروي، فقد كان العروي أحد الروافد الفكرية للحزب، والعروي مفكرٌ مشغول بالمفاهيم، كتب عن خمسة منها (الحرية، والدولة، والأيديولوجيا، العقل، التاريخ)، وما يميز العروي أنه تاريخاني المنهج، مستخدماً التاريخانية في تحليل المفاهيم، أي واضعاً للمفاهيم في سياق زمانها ومكانها، في فضاء صيرورتها التاريخية.
وبالنسبة لي لم يكن من الممكن تذكّر العروي من دون استذكار المفكر السوري الياس مرقص، الذي أكد دائماً على العلاقة بين المطلق والنسبي، إذ لا يمكن فهم المطلق من دون النسبي، كما لا يمكن فهم النسبي من دون المطلق، فكل واحد منهما حدٌّ على الآخر، وهكذا هي المفاهيم حدود، فالحرية مثلاً هي حدٌّ على نقائضها، من عبودية، وخضوع، وتقديس، وطاعة، لكن الحرية ذاتها ليست خارج سياق التطور التاريخي لممكناتها، وليست مقطوعة الصلات عن سواها من المفاهيم، وأيضاً يخضع مفهوم الحرية ذاته لتأويلات أيديولوجية مختلفة، فالحرية من منظور ماركسي تختلف عن الحرية من منظور ليبرالي أو قومي، وهكذا لا يمكن النظر لمفهوم الحرية بعيداً عن اللحظة التاريخية التي نتحدث فيها عن الحرية، ولا بعيداً عن التناقضات الموجودة في الواقع، أو بعيداً عن المرجعية الفكرية التي ننطلق فيها لتعريف هذا المفهوم.
أحد دروس عبد الله العروي، وأحد دروس الياس مرقص، وهو درس فلسفي بليغ، ألا نرفع المفهوم إلى عتبة المقدّس، فنحن بذلك نجعل من المفهوم مطلقاً، لا يختلف عن الله، ونصبح بذلك مؤمنين لا مفكرين، فلا حرية مثلاً خارج إطار الدولة، وإلا لأصبحنا كما وصف توماس هوبز في حالة حرب الجميع ضد الجميع، وقد أحلّ هيجل الدولة في محل الروح المطلق، فنحن إذ نناقش مفهوم الحرية نناقش في الوقت ذاته مفهوم العقد الاجتماعي، ومفهوم الدولة، ونمط الإنتاج الموجود، والتطور التاريخي للمجتمع، وبغير ذلك يصبح حديثنا عن الحرية حديثاً لا معنى له، أو ثقافوياً (كتهافت لمفهوم الثقافة نفسه).
في قطع رأس طالب شيشاني/ فرنسي لرأس أستاذ تاريخ فرنسي، لا بد من استعادة بعض المفاهيم والدروس الفلسفية في نقاش الحادثة، فأحد محاور الحادثة هو حرية التعبير، أي الحرية، وإزاء هذه الحادثة لا يمكن لنا أن نغفل عن كون الحادثة وقعت في الجمهورية الفرنسية أولاً، وأن الفاعل هو شاب لاجئ منذ 12 عاماً، يدرس في مدارس فرنسية، وبالتالي فإن المشكلة في أحد جوانبها هي مشكلة فرنسية/ أوروبية، ذات صلة مباشرة بالعلاقة بين المجتمع الأم واللاجئين إليه من جنسيات مختلفة، حيث أنه لم يعد خافياً على الكثيرين أن مفهوم الاندماج وتطبيقاته الأوروبية يعاني من خلل كبير، يتجلى في أشكال عديدة، من بينها الاختلاف الثقافي، وعدم القدرة على بناء توازنات بما يخص التمايزات بين الهويات الثقافية، والنظرة المسبقة لدى أطراف عديدة لبعضها البعض، والتي يسهم كلّ من الإعلام والسياسة في كثير من الأحيان في تكريسها.
إدانة الجريمة هنا جنائياً وإنسانياً لا ينبغي لها أن تنسينا جذور الأزمة، أو تجعلنا نصدر أحكام قيمة إطلاقية، نقفز فيها من مقدمات صحيحة، مثل أن القتل مدان وغير إنساني إلى نتائج غير صحيحة مثل أن المسلمين هم أمة من القتلة، وأن كل مسلم هو مشروع قاتل، وأن الإسلام بذاته هو دين قتل، وحكم القيمة الأخير الذي يقول بأن الإسلام بحد ذاته هو دين قتل، ينسى أو يتناسى أن الإسلام جزء من التاريخ، وهو في حالة تفاعل أو انفعال مع الأحداث التاريخية، وليس كائناً يسبح في الفضاء.
وإذا عدنا إلى الدولة وهيجل، سنجد أن معظم العرب والمسلمين اليوم يعيشون في دول لا تنتمي إلى الدولة الحديثة، أي دولة المواطنة والقانون، وأنهم محكومون بنخب سياسية تستثمر في تغذية الانتماءات ما دون الوطنية، من أجل ديمومة مصالحها وبقائها في الحكم، وأن بنى الإنتاج لا تزال متخلفة، ومعظم الناس يعيشون في أوضاع اقتصادية ومعيشية بائسة، ونسبة الأمية تصل في العالم العربي إلى 25% من السكان، مع إحكام القبضة على مؤسسات التعليم والقضاء والإعلام، والتحالف بين السلطات وبين المؤسسات الدينية، وفي ظل هكذا أوضاع فإن تفسير ظواهر العنف بنسبها إلى النص الديني هو تعمية عن الواقع، فسيطرة النص الديني، أو تأويلات عنفية للنص، لا يمكن لها أن تكون منتشرة بقوة وفاعلة في دولة المواطنة والقانون.
علينا، ونحن نحلل لماذا يرى مسلمون كثر أن المسَّ بما يعدّونه مقدّساتهم هو مسٌّ بوجودهم، علينا أن نعلم أنهم فقدوا كل شيء، وأن تشبثهم بهذه المقدسات أصبح خط الدفاع الأول عن وجودهم، وفهم هذه الحالة لا ينبغي أن يفهم منه أي تبرير للعنف، بل كمدخل لإعادة بناء الوعي بكيفية تحليل مشكلاتنا وأزماتنا، وإنتاج حلول لها، فالدرس الفلسفي العظيم للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا هو أن تحليل الخطاب يجب أن يذهب نحو تفكيك البنى والمؤسسات التي تحافظ على هذا الخطاب، أي نقد السلطات، وليس الخطاب الديني باستثناء عن هذه القاعدة الديريدية (نسبة لجاك دريدا)، وإلا أصبحنا في حالة استقواء على الضعفاء، الذين لا حول لهم ولا قوة.
أما القول بأن الإسلام في أزمة فهذا ينبغي وضعه في خانة محددة، وهي أن الأيديولوجيا الإسلامية، أي أيديولوجيا الإسلام السياسي في أزمة فهذا صحيح، وأيضاً الليبرالية والماركسية كأيديولوجيتين أيضاً في أزمة، لكن حتى لا نخلط، فإن أزمة الأولى تختلف من حيث النوع والدرجة مع الليبرالية والماركسية.